د. فهد بن عبدالله الخلف
كلمة (حرث) الواردة في قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} من الكلمات التي توقّف أمامها بعض مفسّري القرآن الكريم، وبعض اللغويّين بوصفها كلمة وردت في هذه الآية الكريمة، وكان ورودها ورودًا غير حقيقيّ الدلالة، فذهب بعض المفسّرين، وبعض اللغويّين يتأوّلون معنى هذه اللفظة، فهذا الراغب الأصفهانيّ (تـ425ه) يقول معلّقًا على هذه الآية: «وذلك على سبيل التشبيه، فبالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أنّ بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم»(1)، إذن يقرّر الراغب هنا أنّ استعمال كلمة (الحرث) في الآية استعمال فيه استعارة بجامع المشابهة في عملية الزراعة في الأرض وفي الرحم.
ويرى الزمخشريّ (ت538هـ) في الأساس أنّ استعمال الحرث من باب المجاز بقوله: «كيف حرثك أيْ: امرأتك، قال [الشاعر]:
إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثي همّه أكل الجراد»(2)
فمقصود الشاعر بقوله: حرثي أيْ: زوجي.
ويرى أبو حيّان الأندلسيّ (ت745هـ) في البحر المحيط عند تحليله الإعرابيّ لهذه الآية أنّ «نساؤكم: مبتدأ، وحرث لكم: خبر، إمّا على حذف أداة التشبيه أيْ: كحرث لكم، ويكون نساؤكم على حذف مضاف، أي: وطء نسائكم كالحرث لكم، شبّه الجماع بالحرث إذ النطفة كالبذرة، والرحم كالأرض، والولد كالنبات. وقيل على حذف مضاف أي: موضع حرث لكم، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن»(3) يقرّر أبو حيّان هنا أنّ هذا الاستعمال اللغويّ للفظ (الحرث) من باب التشبيه البليغ المحذوف الأداة.
وفي الكناية والتعريض يقرّر أبو منصور الثعالبي (ت429هـ) بعد إيراد البيت:
إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثي همّه أكل الجراد
أنّ الشاعر يعني بقوله: حرثه امرأته (4). ويقول الزمخشريّ في الكشّاف: «حرث لكم: مواضع حرث لكم، وهذا مجاز، شبّههنّ بالمحارث تشبيهًا لما يلقى في أرحامهنّ من النطف التي منها النسل بالبذور، وقوله: (فأتوا حرثكم أنّى شئتم) تمثيل أي: فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى جامعوهنّ من أي شقّ أردتم بعد أن يكون المأتى واحدًا، وهو موضع الحرث»(5). ويقول محمّد بن الطاهر بن عاشور (ت1393هـ) في التحرير والتنوير: «وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف»(6). ويقول محمود صافي (ت1376هـ) في الجدول: «نساؤكم حرث لكم أي: مواضع حرث لكم شبّهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهنّ، وبين البذور من المشابهة من حيث إنّ كلًّا منهما مادّة لما يحصل منه، وهذا تشبيه بليغ، فأتوا حرثكم أي: ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحيّة»(7).
جميع المصادر والمراجع السابقة تعلّق على لفظ (الحرث) بأنّه مرّة استعارة، ومرّة كناية، ومرة تشبيه محذوف الأداة، ومرّة تشبيه بليغ، ويفهم من نصّ أبي حيّان الأندلسيّ أنّ هذا الاستعمال من كنايات القرآن الكريم التي اختصّ بها، وكنتُ مرتاحًا إلى هذا الجزم إلى أن وقفتُ على نصّ قديم جدًّا يعود إلى الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وهذا ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، يقول حكمت بشير الأسود: «عندما اختارت إنانا [اسم آلهة] الراعيَ، وصفت هذا الحدث من خلال تآليف سومرية على لسانها تُغنّى مع الكورس، وهي تصف الحدث في قطعة أدبيّة بعنوان (دعوني أذهب، يجب أن أذهب) جاء فيها:
إنانا: وكما هو لي، فرجي جبلي المدوّر
من الذي سيحرثه
فرجي (أنا) الملكة، أرضي الرطبة
من الذي سوف يحرثها
الكورس: آه سيّدتي الملكة
الملك سوف يحرث الحقل
دموزي الملك سوف يحرثه
إنانا: حسنًا إذن، احرث فرجي
آه ذلك الذي اخترته»(8).
وفي هذه القصيدة على لسان الآلهة إنانا -في معتقدات قدامى العراقيّين- وردت لفظة (حرث) خمس مرّات بدلالة مجازية تعبّر عن فعل المعاشرة الزوجيّة، وتشبه كثيرًا ما جاء فيما بعد في الاستعمال القرآنيّ {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. ولعلّ الحياء في التعبير عن المعاشرة الزوجيّة ألجأ بعض شعوب الشرق إلى التعبير عنها بكلمة (الحرث)، فهذا من المشترك اللغويّ في لغتين من لغات الشرق القديم: (السومريّة والعربيّة) الذي يستدعيه الرقيّ الحضاريّ في التعامل مع الألفاظ التي يُستحيا من ذكرها.
وهذا الاختيار القرآنيّ البليغ في توظيف كلمة (حرث) في هذا السياق له جماله، ودواعيه البيانيّة التي تقرّب المعنى بأسلوب التشبيه دون خدشٍ لحياء إذن من يسمعها، والملحظ هنا فقط هو سبق حضارة بلاد الرافدين القديمة إلى التوظيف البليغ للفظ (الحرث) في التشبيه ذاته -إن صحّت قراءة بعض الباحثين للكتابة السومريّة لهذه القصيدة.
الحواشي:
1- الأصفهانيّ، الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق، سوريا، الطبعة الرابعة، 1430هـ/ 2009م، ص 226.
2- الزمخشريّ، محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق: باسل عيون السود، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ/ 1998م، جـ1، ص178.
3- الأندلسيّ، محمّد بن يوسف: البحر المحيط في التفسير، تحقيق: زهير جعيد، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1431هـ/ 2010م، جـ2، ص428.
4- انظر الثعالبي، عبد الملك بن محمّد: الكناية والتعريض، تحقيق: عائشة حسين فريد، دار قباء، القاهرة، مصر، د.ط، 1998م، ص9.
5- الزمخشريّ، محمود بن عمر: تفسير الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق: خليل مأمون شيخا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1430هـ/ 2009م، جـ2، ص130.
6- ابن عاشور، محمّد بن الطاهر: تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسيّة للنشر، تونس، د.ط، 1984م، جـ2، ص371.
7- صافي، محمود: الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه، دار الرشيد، دمشق، سوريا، الطبعة الثالثة، 1416هـ/ 1995م، جـ1، ص466.
8- الأسود، حكمت بشير: الحبّ والغزل والجنس في حضارة بلاد الرافدين، قناديل، بغداد، العراق، الطبعة الأولى، 2020م، ص55، ص56.