سهام القحطاني
كانت ولا تزال «المرأة» أنثى سلطة الإلهام في الإبداع الإنساني سواء بوجودها الحقيقي أو الافتراضي، بحكاياتها الحقيقية أو الزائفة، سواء أكانت وراء الحجاب أو أمامه، «فكل إبداع دون المرأة هو قدم عرجاء لا عصا لها، شجرة بلا ظل لا جلّاس لها».
وفي هذا المقام سنقف أمام بعض حكايات «أنثى سلطة الإلهام» حكايات لا تزال تشرق الشمس فوق أرضها.
الحكاية الأولى:
تبك خناس فما تنفك ما عمرت
لها عليه رنين وهي مقتار
تبكي خناس على صخر وحق لها
إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
-الخنساء-
الخنساء من أشهر الأصوات الشعرية العربية التي لا تزال تُضيء ذاكرة الأدب العربي حتى الآن رغم اختفاء الكثير من الأصوات الرجالية التي واكبتها سواء في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام، ولعل ما ضمن استمرار صوتها الشعري حتى الآن، نوع الشعر الذي تميّزت به الخنساء «شعر الرثاء»، فلم يشتهر شاعر عربي في زمن الخنساء وما بعدها في هذا الغرض الشعري «إلا هي» مع أن كثيرا من الشعراء قد نظموا فيه، ولعل صدق مشاعر الخنساء وواقعيته هو الذي جعلها «علامة ثقافية لهذا الغرض» فأصبحت «أيقونة الرثاء» في الأدب العربي قديمه وجديده بلا منازع.
ولا شك أن حصر الخنساء في «زاوية الرثاء» قد ظلم قدرتها الإبداعية التي تُضاهي وقد تتفوق على «شعراء المعلقات» التي حُصرت في «الذكورية الشعرية»، لكن التاريخ أثبت أنها هي الباقية وغيرها ابتلعته أمواج النسيان.
الحكاية الثانية:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى «غزالة» في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر
صدعت «غزالة» قلبه بفوارس
تركت منابره كأمس الدابر
-عمران بن حطان-.
و»غزالة الشيبانية» تُعتبر من أشهر مناضلات «الخوارج» وقصتها مع الحجاج بن يوسف الثقفي من أشهر قصص التاريخ، حتى تحولت في تاريخ الخوارج إلى «أنثى إلهام» أيقونة الفروسية والبطولة، فقد استطاعت أن تتحدى الحجاج بن يوسف ودخلت الكوفة فما كان منه إلا أنه فرّ منها وتحصن في قصر الإمارة، ورغم نهايتها المأساوية إلا أن «غزالة الشيبانية» ظلت مثالا لقوة المرأة وشجاعتها.
*الحكاية الثالثة:
مالي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهنّ في عصياني
-هارون الرشيد-
وسواء أكان هذا البيت الذي يُشير إلى ضعف سلطة الرجل مهما بلغت قوتها أمام المرأة المتمردة، وغيره من الأبيات التي ذكرها الأصفهاني في الأغاني حقيقية أو مُلفّقة، وإن كنت أميل إلى عدم صدقيّة هذا البيت وغيره من الأبيات التي نُسبت إلى الخليفة هارون الرشيد، لكن علينا أن لا نغفل «الجو الترويجي» لهذا البيت وغيره من الأبيات الذي قد تُوحيّ لنا باحتمال واقعيته وصدقيته.
الصراع القائم بين «الجواري السيدات» في عهد هارون الرشيد ومن جاء بعده وقصص الكيّد التي كانت تُحاك من خلاف ستائر الحرملك.
ولعل هذا الصراع هو الذي فتح باب «التلفيقات الثقافية» ضد المرأة في هذه الفترة، حتى نُسب إليها سقوط الخلافة نهاية المطاف، ليتملص الرجل من جناية ضعفه الذي كان السبب الرئيس لهذا السقوط، وبما أن التاريخ يكتبه الرجل فإقرار متهم بديل لتحمل جنايته هو أمر لا تنتفي واقعيته.
«وإن كان لهذه الحكاية وجوه خفية من الرواية».
الحكاية الرابعة:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسرِ
وبي منك مالو كان بالشمس لم تلح
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسرِ-
ولادة بنت المستكفي-
عندما نذكر اسم «ولادة بنت المستكفي» فهذا يعني أننا أمام «أيقونة الانقلاب الثقافي لصوت المرأة العربية» التي شرّعت التمرد على الخطاب الذكوري الثقافي، حتى أصبحت «ولادة بنت المستكفي» شاهد عيان للمثقفة العربية الجديدة في زمانها؛ ليس لأنها تحررت من قيود الخطاب الذكوري الثقافي وحرّرت من بعدها، بل لأنها أيضا استطاعت أن تكّون لنفسها «هوية ثقافية لنصها الثقافي».
صحيح أن هوية نصها غلب عليها السطحية ولم تسطع تقديم أي إضافة ثقافية، لكن بلاشك استطاعت إحداث حركة للخطاب الثقافي العربي في زمنها، حركة تقدم معها صوت المرأة الثقافي إلى دائرة الضوء أسوة بصوت الرجل، هذا التمرد الثقافي الذي قادته ولادة بنت المستكفي هو الذي جعلها منذ عصرها وحتى الآن ذاكرة نابضة بالحياة.
وعلى ذات الطريق ظهرت مي زيادة التي كانت النسخة الحديثة للشاعرة ولادة بنت المستكفي في الجمال والقوة وسلطة الإلهام والثقافة.
لقد كانت مي زيادة فتاة أحلام للكثير من الأدباء في عصرها حتى أنها تحوّلت بالنسبة إليهم إلى «الأنثى التي تتحكم في سلطة إلهامهم» فهناك من أحبها بصوت مرتفع وهناك من أحبها من خلف ستار بصمت.
وهذا الشغف الغريب للأدباء بميّ زيادة لا يسلم من البحث عن استفسار عن سببه، لماذا شٌغف جميع الأدباء بميّ زيادة، مع أن بلاشك هناك من أجمل منها في عصرها ومن يُضاهيها من الأديبات ثقافة ومعرفة.
فهل كان التمرد على السائد هو الذي جذب الأدباء إلى ميّ زيادة؟.
لا أظن إنما «وهج السلطة» التي كانت تمتلكه ميّ زيادة هو الذي جذب إليها الأدباء ليس فقط «غيرة من تلك السلطة» التي لم يكن يحظى بها أي أديب، ولذا سعى الجميع إلى ميّ زيادة ليستظل بتلك السلطة من ناحية ومن ناحية أخرى لإسقاط تلك السلطة عن ميّ زيادة التي انتصرت على سلطة الثقافة الذكورية من خلال الارتباط بها.
ولذا يظل المبدع الرجل السباق للاحتفاء بإبداع المرأة ليظل هو المتحكم في سلطة ثقافتها ولتبقى في دائرة ظله.
ومع ذلك تظل هناك أنثى ذات السلطة المتمردة الذي لا يستطيع أي مبدع التغلب على سحر إلهامها.