د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل ألفين وخمسمائة عام عاش حكيم آشوري يقال له أحاقيل، وقرَّبه الملك سنحاريب، وجعله وزيره، وكاتبه، وحامل خاتمه، وبعد وفاة الملك، سار على هذا النهج ابنه الملك أسرحدون، وعندما شعر هذا الحكيم أنه قد تقدم في العمر، اختار ابن اخته، ليتبناه ويعلمه الحكمة، وبعد أن اطمأن على قدرته، قدمه للملك ليكون وريثه بعد وفاته، لكن ابن الأخت هذا، أراد أن يبعد خاله ومتبنيه، لكي ينفرد بالقرب من الملك، فاتهم خاله الحكيم بتهم باطلة جعلت الملك أسرحدون، يغضب عليه، ويدخله السجن، ليتم قتله فيما بعد، وعندما أُدخل في السجن، صعب على السجان حاله، لأنه قد أسدى له معروفاً، وعندما حان موعد قتله، قام السجان بقتل أحد السجناء بدلاً عنه، وأخرج الحكيم وهربه، وقام السجان بإيهام مندوب الملك أن الجثة هي جثة الحكيم. بعد فترة ندم الملك الآشوري على قتل الحكيم، فذهب إليه السجان، وأبلغه أنه ما زال موجوداً، ثم أحضره، وعلم الملك بالقصة، فتم قتل ابن أخت الحكيم، وعاد الحكيم إلى منصبه وثقة الملك به، وذات يوم طلب فرعون مصر من الملك الآشوري أنه يرغب في بناء قصر معلق في السماء، فطلب الملك من الحكيم تحقيق ذلك، فما كان منه إلا أن درب شابين صغيرين على ركوب نسرين مروضين، ثم ذهب إلى الفرعون وقال له يمكنك ذلك بالبناء من الحجر والطين والجير، بعد ذلك حام النسران حول مجلس الفرعون وهما يصرخان: (البناء من الحجر والطين والجير) ثم ذهبا. هذه القصة ربما يكون فيها شيء من الخرافة، لكن من المؤكد أن هناك حكيماً اسمه أحاقيل كتب كتاباً عُثر على نسخة منه في مصر في بداية القرن العشرين، ويحوي الكثير من الحكم الرائعة، والتي تمثل المعاني الجيدة للتربية.
ما نحن بصدد الحديث عنه، يتمثل في الحكم التي طرحها هذا الحكيم الآرامي الآشوري الذي كتب كتابه بالآرامية، وتمت ترجمته إلى عدد كثير من اللغات، لا سيما حكمة تتعلق بالبيئة والإنسان، يقول فيها: (لا يمكن لساكن صيدا أن يعيش في الصحراء، ولا يحب البحر من يسكن الصحراء). وهذا يعني أن الإنسان ابن بيئته، وهذه هي الحقيقة، فنرى ابن البادية يستمتع بقضاء بعض الوقت في الصحراء، ليمد نظره في الأفق الواسع دون حاجز يمنعه من إطلاقه إلى أقصى ما يمكن النظر إليه، ويحس كأنه قد امتلك ذلك البهاء الجميل التي تمنحه له الطبيعة، دون قيود أو عوائق، تماماً كما يمد ساكن صيدا، ويقصد ساكن الساحل، بصره على سطح البحر، دون مانع يمنعه من الاستمتاع بتلك المساحات الهائلة من المياه التي تحيط به من كل الجهات، ويسمع ويستمتع بصوت البحر وأمواجه وهديره، تمامًا كما يسعد من بالصحراء بصوت الرياح التي تلامس أذنه، وتزيده متعة، لاسيما إذا كانت تحمل نسيمًا عليلاً من الندى الذي ابتل بماء المطر، وربما خالطه شيء من شذى الخزامى ليستنشق عبقه، فتزيد بهجته، وتكتمل متعته.
الحكمة يمارس بعضها الناس في حياتهم، ويتداولونها في مجالسهم، لكنهم لا يدونونها، أما الحكماء فإنهم يقومون على صياغتها وتدوينها، أو يأتي من بعدهم ليدونوا ما وصل إليهم من أقوال أولئك، ومثال على ذلك، ما فعله أحاقيل، وربما يكون هو لقمان الحكيم الذي ورد اسمه في القرآن الكريم، ومن شعراء الحكمة طرفة ابن العبد، وخطبائها قس بن ساعدة الأيادي، وروادها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمتنبي، وغيرهم من الحكماء اللذين خلدوا تلك الأقوال نثراً أو شعراً، وفي أحيان كثيرة نجد توافقاً بينهم، وربما ينقل بعضهم من بعض، فلو ضربنا مثلاً بما سطره أحاقيل في قوله: (يا بني أرسل الحكيم ولا تكرر عليه)، نجد أن طرفة بن العبد يقول في أحدى قصائده:
إذا كنت في غاية مرسلاً
فأرسل حكيماً ولا توصه
هل ما صاغه طرفة ابن العبد شعراً، مجرد توافق في الآراء والحكمة بينه وبينه أحاقيل، أو أنه قد قرأ حكمه، وهذا ليس بمستبعد، فإن هذه الحكم قد سجلت في سفر يسوع، وسفر الأمثال، وغيرهما من الأسفار في العهد القديم من التوراة، وكذلك أيضًا نقله الإنجيل فهي متداولة معروفة، وطرفة بن العبد تداخل مع أولئك النفر الذين كانوا يحكمون العراق والشام، وهي مليئة بأهل الكتاب، ولهذا فإن هذه الحكم كانت معروفة في ذلك الزمان، فقد يكون ذلك واقعاً.
أعجبني قول أحاقيل الحكيم: (يا بني لا تكن عجولاً متسرعاً، كشجرة اللوز تزهر قبل كل الأشجار، ويؤكل ثمرها بعدها جميعاً، بل كن سوياً عاقلاً هادئًا متأنياً كشجرة التوت، فإنها تورق آخر الأشجار، ولكن ثمرها يسبق كل الأثمار). وهناك حكمة أخرى جميلة، يقول: (يا بني أرم حجارة على الكلب الذي ترك صاحبه وتبعك)، وقال: (يا بني يأكل ابن الغني ثعباناً فيقول الناس للشفاء، ويأكله ابن الفقير، فيقول الناس: من الجوع).
وأخيراً هل أحاقيل هو لقمان الحكيم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وفي أسفار التوراة التي سطرت في منتصف الألف الأول قبل الميلاد، وفي الأنجيل في العهد القديم، ربما يكون ذلك وهو الأقرب لتوافق أقواله مع ما ذكر فيها، ومع كل تلك الحكم التي علمها لابن أخته، الذي خانه وتآمر عليه، وحرض الملك الآشوري على قتله، فالطباع تبقى غالبة على التعلم، لكن التعلم يهذبها لمن كان لديه استعداد فطري للتبصر، وهذا ما لا نجده في ابن أخته الخؤون بطبعه.