أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: طبع كتابي (لن تلحد) عام 1403هجرياً، ولقي بحمد الله قبولاً لدى القرّاء، وقد قلت في الطبعة الأولى (ونعم ما قلت): ((إلى بقيّة عمرك يا أبا عبد الرحمن؛ لعلك تعود إلى نصابك.. وإلى كل ملحدٍ ليؤمن؛ وإلى كل مؤمن ليزداد إيماناً مع إيمانه)).
قال أبو عبدالرحمن: الإلحاد في عرف عامة الناس يعني إنكار وجود الله على صفات الكمال والتّقديس, والتكذيب بشرع الله, وجحد حقائق الغيب.. والإلحاد في اللغة يعني الميل والانحراف؛ ومن عموم المفهوم اللغوي حدّدت مفهوم هذا السّفر؛ فجعلت الإلحاد يشمل إنكار وجود الله, وجحد حقائق الغيب, والتكذيب بشرع الله: إما في ثبوته، وإما في صدقه، وإما في معقوليته، وإما في عدله.. مثال ذلك إلغاء عقوبة القصاص؛ حكماً بأنها ظالمة, أو غير معقولة؛ فهذا نوع من أنواع الإلحاد، وإنكار وجود الجنّ نوع من أنواع الإلحاد؛ والمطالبة بالتحرر من قيود الشرع نوع من الإلحاد، وتفسير حقائق الغيب بما ينافي خبر خالق الغيب نوع من أنواع الإلحاد.. إلا أنني في مناقشة هذه المسائل الإلحادية تحاشيت المسائل العملية، واقتصرت على المسائل الاعتقادية؛ فلم أحفل مثلاً بشروط إقامة القصاص؛ لأنّ غرضي بيان المعتقد الصحيح في مشروعية القصاص.. ولم يكن الغرض من هذا السفر ملاحقة شبه الملاحدة؛ وإنما كان الغرض تحرير العقل من أغاليط الفكر, وإقناع الناس بثمرة الإيمان بالله وبشرعه؛ ولهذا كان العنوان (لن تلحد) تفاؤلاً وثقةً باستجابة العقول المنصفة لموجبات الضرورات الفكرية؛ ولهذا أيضاً كتبت عن الطائفة المنصورة؛ دلالةً على ثمرة الإيمان وصدق الخبر الشرعي؛ ولهذا مرّةً ثالثةً حرصت على تحقيق (نظرية المعرفة والعلم) [الأبستمولوجيا]، ولا أنكر أنّ لي ريادةً في هذا الباب, وصحّحت ومحصّت طرق الاستدلال والجدل؛ لأنّ تنظيم الفكر وتصحيح طرق الاستدلال قمين بالمعتقد الصحيح.
قال أبو عبدالرحمن: هناك ظاهرة تثلج صدر المؤمن؛ وهي أنّ مفكري الملاحدة مجنّدون أفكارهم لهدم نظرية المعرفة بسفسطة أو حسبانية, وأمّا مفكّرو المؤمنين فهم أحرص الناس على تنظيم المعرفة، وهدم السفسطة؛ وهذا يعني أنّ الإيمان أسعد بضرورات الفكر.. وإذا كان في قضايا الإيمان كبعض مسائل الغيب ما يحار العقل في فهمه؛ لقصور وسائل المعرفة البشرية عن تكييفه: فليس فيها ما يستحيل على العقل الإيمان به؛ وأمّا قضية الإلحاد فمستحيلة علي تصور العقل.
قال أبو عبدالرحمن: هذا السفر محاولة رائدة في نظرية المعرفة: إما لأنّ أغلب موادّه من قضايا المعرفة, وإما لأنّ عموم منهج مواده استثمار لما صحّحته من نظرية المعرفة؛ لأنّ مدار هذا البحث على تحقيق نظرية المعرفة نفسها، وتصحيح طرق الاستدلال والجدل بناء علي المحقّق من نظرية المعرفة، وكشف أغاليط المنطق.. وأخطاء الاستدلال فيما ناقشته من استدلالٍ: قائم على الشّبه الإلحادية.. وكان منهج الطبعة الأولى قائماً على تدوين بعض محاضراتي ومقالاتي التي كنت أنشرها في الصحف خلال عشرين عاماً؛ وهذا منهج لم يعجبني؛ ولهذا فقد أهملت جملةً منها؛ لأنني غير راضٍ عنه, وما رضيته وزّعته في أسفارٍ تحت عنوان عامٍّ هو كتابي (الفنون الصّغرى).. إلا أنني ميّزت بعض الأسفار بعناوين خاصة لما رأيت موضوعاتها موحّدة الهدف؛ فكان السفر الأول بعنوان (هكذا علمني ورد زورث)؛ لأنّ موضوعات الفن والأدب هي التي توزن بالمعيار الجمالي؛ وكتابي عن (ورد زورث) في صميم النظرية الجمالية، وكان كتابي(اللغة العربية بين القاعدة والمثال) من البدايات في تحريري (مقاييس اللّغة)؛ وكان كتابي (هموم عربية) بداية ساذجة في تناول تأزّماتٍ تاريخية.. وتحاشيت المنهج في جمع موادّ هذا الكتاب (لن تلحد) في طبعته الأولى عندما قدّمت له وكنت مقيماً يوماً وراء يومٍ مع زوجتي الثانية بمنزلي بالرياض/ غبيراء/ دارة فيصل/ فجر يوم الخميس 26- 1 -1401 هجرياً.
قال أبو عبدالرحمن: ما سمّاه المحقّقون (ولا سيّما الخواجات) معرفةً وعلماً مقرونين في (نظريّة المعرفة) صورة حاصلة في عقل الإنسان عن الموجود المحسوس؛ وهذه معرفة تصوّرية.. مثالها: معرفتي برائحة (السنا) الذي سبق أن شممته، وأمّا الصورة الحاصلة في عقل الإنسان عن موجود غير محسوس ساعة التصور، ولم يسبق للمتصوّر الإحساس به.. مثال ذلك: معرفتي بالإسهال الحاصل عن (السنا) الذي لم أره، ولم أجرّبه، وهذه تحصل بالوصف والقياس، وتبنى على معارف حسية أخرى؛ وهذه المعرفة تسمى المعرفة التصديقية, أو الحكمية, أو البرهانية.. وأركان هذه المعرفة تقوم على أربعة أركان: الأوّل المعروف؛ وهو الشّيئ الذي حصلت لعقلي صورته بواسطة الحس، أو الذي حصلت لعقلي صورته, أو صورة الحكم فيه بواسطة البرهان، والعارف؛ وهو النّفس التي تملك وسيلة المعرفة المباشرة، ومعرّف (بالبناء للمفعول)؛ وهو النفس العارفة بالبرهان؛ وكذلك الشيء المعروف، ومعرّف (بالبناء للفاعل)؛ وهو الذي ينقل معرفته الحاصلة له مباشرة, أو بالبرهان؛ ويجوز تجوزاً تسمية وسيلة المعرفة معرفاً.. وأنواع المعرفة البشرية تأتي بعددٍ من الاعتبارات, وقد جمعتها بالاستقراء، ولم أر أحداً جمعها هذا الجمع؛ وهي كما يلي :معرفة حسية وموضوعية؛ وهي المعرفة المباشرة للأعيان المحسوسة كمعرفتي لهذا القلم الذي بيدي.. ومعرفة معنويّة؛ كمعرفتي أنّ المطر سبب الإنبات بإذن الله سبحانه وتعالى، وأنّ المطر قبل الإنبات, وأنّ العشاء بعد الغروب؛ فهذه معنوية؛ لأنّ السّبب, والقبل, والبعد: أمور غير عينية: يراها البصر, وتلمسها اليد... إلخ؛ وهي موضوعية؛ لأنها مفهومة من أمور حسية خارج النفس.. ومعرفة كليّة؛ وهي أن أعرف جوانب الشيء بكلّ ما تستطيعه وسائل المعرفة عندي؛ فأعرف: أنّ التفاحة الخضراء ملساء, ندية, غير مجوفة, كروية بطنها أبيض, وبها حبوب بنية, ولها رائحة معينة, ولها فوائد غذائية معينة, وهي حلوة المذاق.. إلخ.. ومعرفة جزئيّة؛ كأن لا أعرف عن التفاحة إلا شكلها.. ومعرفة تامّة؛ كمعرفتي لطعم التفاحة بطرف لساني.. ومعرفة ناقصة؛ وهي المعرفة الحاصلة بالوصف أو التشبيه كمعرفتي بأن طعم التفاحة كطعم السكر ولم أذق التفاحة.. ومعرفة مطلقة؛ كقولنا: طرفا المستقيم لا يلتقيان؛ فهذه مطلقة الزمان والمكان والحالة, ولا يمكن أن يلتقي طرفا المستقيم في زمان ما, ولا مكان ما, ولا حالة ما.. ومعرفة نسبية أو مقيّدة؛ كقولنا:غلي الماء في حرارة درجتها 100؛ فهذه معرفة حقيقية بالنسبة إلى ماء معين, وضغط معين.. ومعرفة واقعيّة؛ وهي ما كانت صورة لواقع موجود في الموضوع, أو خارجه (أي خارج النّفس العارفة).. ومعرفة وهمية؛ وهي ما كانت بخلاف الواقع, وسميت معرفة؛ لأنها صورة في العقل, وسميت وهمية؛ لأنها لم تحصل للعقل بتفكير صحيح وتسمى إراديةً، واعتقاديةً.. ومعرفة إثبات؛ وهي الحكم بوجود شيىءٍ, أو الحكم له بصفة ما.. ومعرفة نفي؛ وهي أن تنفي وجود شيىء، أو تسلب عنه صفة، أو حكماً.. ومعرفة حسية وجدانية في النفس؛ وهي ما أدركته بحسي الباطن كمعرفتي بأنني فرح أو مغموم.. ومعرفة تجريبية؛ وهي كل معرفة حسية تجريبية؛ ولكن جرى الاصطلاح على أنّ المعرفة الحسية لا تكون تجريبية حتى تكون نتيجة تطبيقات حسية متكررة في حالات مختلفة.. ومعرفة عقلية؛ وهي الأفكار الخالصة, أو المجرّدة، أو الحدسيّة (رؤية العقل المباشرة) أو البديهيّة, أو الأوليّة, أو القبليّة, أو الضروريّة, أو الفطرية؛ فمن يقول: (لا يعرف العقل إلا بواسطة الحس): يسمّي هذه المعرفة عقليةً؛ لأنّ العقل جرّدها من محسوساتٍ ما ثمّ عممّها.. ومن يقول: (إنّ العقل يستقل عن الحس بالمعرفة): يسمّي هذه المعرفة عقليةً باعتبار العقل مصدراً لها.. ومعرفة روحية، أو إلهامية؛ فيدخل في ذلك الرؤيا الصادقة, والتجليات في اليقظة كالتلباثي عندما قال: عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: الجبل يا سارية.. ومعرفة يقينية؛ وهي مالا يدخلها احتمال, أو يكون الاحتمال مرجوحاً؛ وهي معرفة الواجب والممتنع أو المتعيّن والمستحيل.. ومعرفة احتمالية؛ وهي ما تتكافأ الاحتمالات حولها, ولا يترجّح أحدها؛ وهي معرفة الممكنات حينما لا يوجد المقتضي, ويتخلف المانع.. ومعرفة ظنية أو ارتيابية؛ وهي أن يكون الاحتمال مرجوحاً؛ فما حصل بالاحتمال الراجح يقين, وما حصل بالاحتمال المرجوح ظن.. ومعرفة ظاهريّة؛ وهي ما يظهر للحس كرؤيتي للزبد يطفو على سطح النهر.. ومعرفة جوهرية؛ وهي معرفة ما غاب عن الحس من باطن المحسوس كمعرفتي بعمق مجري النهر من ظاهر معرفتي للزبد يطفو على سطحه.. ومعرفة مغيّب؛ وهي أنواع : الأول مغيّب كان قبل ذلك حاضراً كتصوري القاهرة وأنا في الرياض.. والثاني مغيب لم يحضر بعد كمعرفتي بعمق مجرى النهر قبل أن ينضب, أو قبل أن أغوص فيه، أو اكتشفه بمجهر.. والثالث مغيب عن الحس البشري كمعرفتنا بوجود الله والجن والملائكة.. ومعرفة حاضر؛ وهي مرفتك وقت الإحساس.. ومعرفة مباشرة، أو بسيطة كمعرفتي بأن طعم التفاحة حلو بطرف اللسان مباشرة، وأنّ الجزء أقلّ من الكل.. ومعرفة بواسطة, أو مركّبة؛ وهي التجريبية كمعرفتي بالغيرية بين موجودين.. ومعرفة برهانيّة؛ وهي المعرفة بواسطة وتركيب.. ومعرفة بديهيّة؛ وهي المعرفة المباشرة.. ومعرفة وجودية أو عدمية؛ وهي حكمي بوجود شيىءٍ في الواقع, أو عدم وجوده.. ومعرفة كيفية؛ وهي معرفة وجودية وزيادة.. ومعرفة كمّيّة؛ كمعرفة الكثافة والثقل والمقدار والعدد؛ وهي معرفة وجودية وزيادة.
(له تابع)
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-