د. محمد بن عويض الفايدي
الوطن واحة أمان ودوحة غذاء ونبع ماء وظل ولاء وانتماء يتفيأ ظلاله المواطن والمقيم على إقليم المملكة العربية السعودية... وهي تحتفل بيومها الوطني 92 في يوم الجمعة الموافق 27-2 - 1444هـ 23 - 9 - 2022م. ليترجم مسيرة تنمية وسيرة مؤسس بنى كيان شامخ يشهد تنمية فريدة واستقرارا متميزا له مقومات وروافد، ومن أحد مقوماته هذا التلاحم الاجتماعي المتميز وهذا التفاف الشعبي حول رمزية القيادة السعودية في ولاء متصل وانتماء مرتبط بمبادئ ثابتة وقيم راسخة وتقاليد وعادات أصيلة تفرد بها المجتمع السعودي.
يُشكل التلاحم الاجتماعي حجر الزاوية في بناء هوية سعودية أكثر قوة وتماسكاً كونه مفتاح النجاح طويل الأجل، والمرتكز الحيوي لنمو وسلامة الوطن حاضراً ومستقبلاً، ومركز الأمان على الأجل الطويل. التخطيط السلوكي الذي يعتمد على المسارات الإستراتيجية التي تستجيب للتحولات المجدولة والمفاجئة بمنهجية مرنة تتعامل مع كافة المتغيرات بمهارة تتبع وتحاكي سلوك الأنشطة المختلفة وتُحفزها.
يعد التلاحم الاجتماعي المظلة التي يستظل بها المجتمع، والميثاق الرابط الذي يجمع شمل الأمة من خلال الروابط التي تلتقط كل المعاني الإنسانية في بذل المعروف، والكشف عن السجايا الإيجابية لتفعيلها في تسليط الضوء على الزوايا الخفية، التي من الأرجح أن تساعد على الالتفاف حول المبادئ الوطنية، والتآخي والتراحم والتواد، وإشاعة الإيثار بين مختلف أطياف المجتمع الذي عليه الاتصاف بالتسامح وحسن النوايا والممارسات وضبط النفس المستند إلى قواعد وقيم الدين والأخلاق. والتأسيس لفضاء مشترك بين كافة أطياف المجتمع.
تشكل الأسرة نقطة البداية في التكوين النفسي والسلوكي للفرد وتعمل على بث السكينة والطمأنينة في نفس الطفل، وبناء الاتجاهات لمختلف التصورات في فضاء هذا الكون الواسع، وتسهم في تشكيل الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الأفراد، وبناء القيم وترسيخ قواعد الآداب والأخلاق, وحفظ كثير من الحرف والصناعات التي تنتقل تلقائياً من الآباء إلى الأبناء، وحفظ التراث والموروث الثقافي. والتنشئة الأسرية السوية تشيع الاستقرار والايثار والود والتراحم والتآخي وتحذر من العنف والكراهية وتقي من الانحراف والتطرف الذي مرجعيته غالباً إلى عدم الاستقرار الأسري.
التمكين من المشاركة التفاعلية بين أفراد المجتمع يكتسبها الفرد من الأسرة بداية إذا تعهدت الطفل بالحنان والعطف والرأفة وحب التعاون والتعايش. الإشراف والرعاية المباشرة للطفل من قبل الوالدين لا تقتصر على الصحة البدنية ولكن تمتد إلى النمو الذهني والحس العاطفي والانتماء وضبط الدوافع الإرادية وتناسقها. وفي هذا الإطار فإن أفضل طريقة لحفظ الأبناء هي مصاحبتهم ومراقبتهم وعدم الانشغال عنهم. وبالتالي على الآباء والأمهات ترك مجالس اللهو والاهتمام بتربية أبنائهم والإشراف على شؤونهم للحد من انحراف الأحداث الذي تعاظم بسبب تواري الآباء عن الشوارع ليلاً وترك الصغار فريسة سهلة للمنحرفين والفاسدين، وتخلي الأمهات عن مسؤوليات التربية وإسنادها للخدم.
يعتمد استقرار شخصية الطفل وادراكاته السوية على ما يسود الأسرة من استقرار وعلاقات حسنة كماً ونوعاً تؤسس لقيم دينية وأخلاقية لا يمكن أن تنمو سوية إلا في محيط أسرة سوية.
مد جسور الثقة وإشاعة لغة الحوار بين أفراد العائلة من أهم عوامل تخطي تحديات الحياة، بالتمكين من النقاش الموضوعي وطرح الأفكار الإبداعية لحل المشكلات الأسرية، وتطبيق الأساليب الإنسانية في التوجيه والتأديب بما يحقق التعزيز المادي والمعنوي، لتقدم نموذجاً متميزاً لمفاهيم الترابط الأسري والتعاضد الاجتماعي بين مختلف شرائح وفئات المجتمع.
عكست القبيلة المفهوم الاجتماعي الذي أنتجته تحديات الحياة في مرحلة تاريخية ماضية، لتكون الكيان الذي ينتمي إليه الفرد، ضمن منظومة من القيم والتقاليد محل الاحترام والطاعة من أفرادها، وأصبحت أحد روافد تشكيل الشخصية في البيئة المحلية، وجانب من جوانب إحياء ممارسات تعزيز قيم التلاحم بين مكونات المجتمع، وتعد منظومة لها بعض المحافل واللقاءات التي تجتمع فيها أفرادها للتعبير عن مآثرها وتطلعاتها.
وفي هذا السياق تأتي احتفالات الإبل التي توحي بالتلاحم الخارجي الذي يبطن هدر للموارد التي يمكن أن تُحسن أوضاع المحتاجين والضعفاء والفقراء من أبنائهم دون إبلهم. لتأخذ اللقاءات نموذج التكافل والتراحم لبلوغ التلاحم الاجتماعي الذي يحقق أهداف الدين والقيم والتقاليد.
التفاوت في الدخل وفي الإمكانات والفرص يُهدد التلاحم الاجتماعي على المدى البعيد. ويبدو أن الدور الرئيس للتلاحم الاجتماعي يتمثل في قدرة الاقتصاد على النمو لا سيما في أوقات الأزمات والهزات التي يزداد فيها التلاحم. فكلما ترتفع درجة التجانس في المجتمع - ديني، عرقي، تقارب في الدخل، غيرها - يرتفع مستوى التلاحم. يزداد التلاحم في المجتمعات المتنوعة اجتماعياً إذا كان هناك مؤسسات قوية تعمل على تنسيق المصالح بين مختلف الأطياف الاجتماعية. وفي هذا المجال يلعب العمل الخيري دوراً مؤثراً انطلاقاً من مبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على بذل الخير والمعروف للناس.
ينطلق تعزيز التلاحم بين فئات المجتمع بتوسيع المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي، والتضمين السياسي والاجتماعي، وإعطاء مساحة أوسع لمنظمات المجتمع المدني، ومؤسسات حقوق الإنسان، وتدعيم قنوات الترابط الأسري، والمساواة في الحقوق والوجبات والتمكين بتساوي الفرص في شغل المناصب، والعدالة في توزيع الخدمات، والاهتمام بالشباب من الجنسين بتفعيل دور الأندية الأدبية والرياضية وإنشاء محاضن لتنفيس الطاقات والكشف عن الإبداعات تعم كافة المناطق والمحافظات والقرى والريف، من أجل زيادة درجة المرونة لاستيعاب الهزات والأزمات المصاحبة للتحضر.
إن تعزيز الحقوق والتضمين من أهم الأولويات للحفاظ على الوحدة الوطنية والولاء والانتماء والاستقرار، وحصانة حية ضد الانهيارات التي يقي منها التلاحم الاجتماعي.
يعتمد النمو الاقتصادي اعتماداً كلياً على استثمار الموارد والقدرات البشرية، وبقدر استغلال هذه الموارد وتمكينها واستخراج طاقاتها لتحفيز برامج التنمية تتسع أو تقترب الفجوة في بناءات التلاحم الاجتماعي الذي يزداد بتمكينها ويتراجع بإهمالها.
تعد جهود المرأة عنصراً مهمًا في تحفيز الطاقات للإسهام بدور أكثر فاعلية في التنمية. بالعمل على تحديث السياسات والبرامج والآليات وتطويرها طبقاً لمتطلبات المرحلة، وسن مزيد من التشريعات والأنظمة التي تدعم هذا التوجه وتحل تشابكاته بإعادة هيكلة التعليم في الجامعات والكليات والمعاهد وتوجيه البوصلة نحو تلبية حاجات النمط الاستهلاكي محلياً بجعل الأولوية لتعليم المهن والحرف المتعلقة بالأغذية، والحلي والمجوهرات، والملابس التقليدية والعصرية، كمنطلق أولي تتبعه منطلقات أخرى عاجلة لتمكين الشباب من الجنسين من السوق المحلي الذي سيطر عليه الوافد الذي استحوذ على مفاصل الاقتصاد السهلة والأكثر عائداً مالياً كبيرًا تخرج في شكل حوالات مالية ضخمة.
معالجة التشوهات المتعلقة بحقوق الطفل التي كفلتها الشرائع السماوية، والمتفق عليها بالإجماع من المجتمع الدولي مسألة حتمية من خلال العمل على تصحيح هذا المسار بحماية الأطفال من السخرة الجائرة التي تحول دون تمتعهم بطفولتهم، وحقهم في التعليم والترفيه، وفي الوقت نفسه تبني اتجاهات إيجابية نحو العمل من خلال برامج تثقيف وتوجيه تعد بعناية لتنمية وبناء الممارسات الإيجابية لدى الأطفال ذكوراً وإناثاً بوسائل مبسطة مثل «المستثمر الصغير»، و»شباب وشابات مال وأعمال المستقبل»، و»الحرفي الناشئ»، و»براعم القيادة». وجعل مثل هذه البرامج ثقافة مرادفة للتحفيز على التعليم والتعلم في مشروعات وطنية عملاقة وشاملة يتحقق من خلالها الإفصاح عن الذات، والعلاقات الحميمة وديناميكية الجماعة، وثقافة التقدير والأمان العاطفي، والمعرفة والتعرف وتعزيز السمات السلوكية الإيجابية، وتعميم مبدأ القبول والاحترام والمعاملة بالمثل والإصرار على الاهتمام. وتوجيه التفاعلات المقترنة بتصرفات سلبية مبنية على النقد والتحقير والحيل النفسية واحتكار الكلام والشك السلبي إلى اتجاهات أكثر إيجابية تستند إلى التقدير وقبول المسؤولية والتهدئة الذاتية والشك الإيجابي. وجعل الاستثمار في الأبناء غاية وهدفاً وحقيقة ماثلة يستحضرها الجميع على شكل مشروعات استثمارية حقيقية لها بداية ولها نهاية، تنتج جيلاً سوياً يسهم في التنمية الوطنية إسهاماً فعالاً.
يأخذ التلاحم الاجتماعي أشكالاً وأساليب متعددة فقد يكون في منظومة قوافل تقدم خدماتها إلى مختلف فئات المجتمع وتستفيد من فعالياتها الجهات العامة والخاصة من خلال تنظيم ملتقيات في التلاحم الاجتماعي وورش تدريبية في مجال العمل التطوعي وفعاليات صحية وتعليمية وبيئية وثقافية. وتفعيل العمل التطوعي بإيجاد فرق تلاحم للتطوع الاجتماعي في صور مبادرات وطنية مثل «عطاء» يشترك فيها الجميع للتطوع ضمن فرق للتلاحم الاجتماعي كل في مجال اختصاصه، بتنفيذ برامج مجتمعية، وإنسانية، وبيئية، وصحية، واقتصادية، وثقافية، وترفيهية ضمن قوافل التلاحم في منظومة تنسجم مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع الذين ترسخت لديهم أعمال البر وسبل الأجر وبذل المعروف.
تتجه فعاليات قوافل التلاحم الاجتماعي ميدانياً إلى كل أفراد الأسرة بداية بالأطفال والمرأة والكبار، وكبار السن ليتمكن كل فرد من الاستفادة من خدماتها الاجتماعية والتوعوية والصحية والفنية والترفيهية والمسابقات. مع التركيز على دور الرعاية ومراكز ذوي الاحتياجات الخاصة وتوفير سبل الدمج الاجتماعي لهذه الفئات في المجتمع في إطار الاستراتيجيات المعدة، وتقديم كل أوجه الرعاية اللازمة لها ضمن مشروع وطني شامل يستفيد ممن لديهم التجربة الثرية في المهارات الاجتماعية والإدارية والفنية باشراكهم بشكل مباشر ومكثف في هذه الأنشطة. والعمل على توعية المجتمع بمخاطر الأمراض الناتجة عن ضغوطات الحياة العصرية، ونشر الثقافة بمختلف الوسائل بالإرشادات والاحتياطات الواجب اتخاذها للوقاية من الأمراض التي أفرزها التحضر. وزيادة رصيد العمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية، وإيلاء مجالات البيئة والسلامة المهنية اهتماماً أكبر في فعاليات قوافل التلاحم الاجتماعي.
تعد فعاليات وأنشطة اليوم الوطني بيئة تكاملية تستمد مقوماتها من مبدأ الوطنية المشتركة لتجسيد الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وذلك بجعل العمل التطوعي ركيزة لاستقطاب الشباب وتأهيلهم للعمل المجتمعي محليا ودولياً.
اليوم الوطني فرصة للتضامن بين الأجيال على جميع المستويات والأعمار ومنطلقاً لتأسيس منظومة مجتمعية متسقة ومتدرجة بين الأجيال والفئات العمرية تساعد في نقل التجارب والخبرات وتؤسس للإثراء المعرفي والحواري والفكري بين مختلف المراحل العمرية والمستويات الفكرية والفئات الاجتماعية. والتضامن أيضا شرط أساسي للتلاحم الاجتماعي وقاعدة لنظم الرعاية الرسمية وغير الرسمية التي تتهيأ في احتفالات ومراسم اليوم الوطني، فتغير الظروف السكانية والاجتماعية والاقتصادية يقتضي بناء ثقافات التعايش وقبول الآخر بتكوينه الفكري والسلوكي ونمط حياته. والذي بدوره يؤسس لمرحلة جديدة تتطلب تعديل مستوى الرواتب والمعاشات والضمان الاجتماعي والصحة والرعاية الاجتماعية والنفسية بما يواكب التحضر وغلاء المعيشة للمحافظة على رأس المال البشري أهم منجزات التنمية الوطنية، وتحقيق مفهوم التنمية الشاملة والمستدامة. يعد اليوم الوطني البوابة الناجزة للشروع في عمل وطني شامل يؤسس لمرحلة جديدة تهدف إلى تقريب الفجوة بين الأجيال من أجل تعزيز التبادل المثمر بين الأجيال، لزيادة فرص المحافظة على الروابط بين الأجيال وتحسينها على مستوى الأسرة والمجتمع، وذلك من خلال تيسير اللقاءات بين جميع الفئات العمرية وتجنب التفريق بين الأجيال، وتوسيع دائرة المجالس والمحاضن في الأحياء، وتفعيل دور كبار السن في ذلك بوصفهم يشكلون مورداً فكرياً واجتماعياً تراكميًا لجذب الشباب ونقل التجربة والخبرة والمبادئ والقيم الوطنية إليهم لتحقيق مفهوم التراكمية بين الأجيال. وتشجيع التضامن والتكافل فيما بين الأجيال باعتبارهم متغير جوهري في مسيرة التنمية ومنجزات الوطن محليًا ودوليًا.
إجازة اليوم الوطني تشكل حجر الزاوية لتحفيز الجيل المعاصر الذي عليه العناية بالأبوين والأبناء وبالحفدة في نفس الوقت وذلك بتصميم برامج وطنية شاملة يشترك فيها الذكور والإناث والكبار والصغار تعنى بهذا الجانب وتؤسس لمرحلة جديدة تواكب مسار التحضر والتغير الاجتماعي.
راحة اليوم الوطني من العمل فرصة ثمينة إذا ما استثمرت بطريقة إيجابية لتعمل على تعزيز مشاعر التآلف والإخوة بين الجيران من خلال قنوات التواصل الاجتماعي في الأحياء، الذي ينبغي التركيز عليها وذلك بتوسيع دائرة حواضن اللقاءات من حدائق وملاعب ومخيمات وتعميم مجالس وديوانيات الأحياء لتشمل كافة الأحياء في المدن والمحافظات والمراكز والقرى. والعمل على إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية، التي يواجهها سكان الحي الواحد. وإيجاد آلية للترابط والتواصل بين الأحياء. ومراعاة التغيرات الاجتماعية الطارئة على المجتمع في مختلف أرجاء الوطن ومعالجتها من منطلق شمولي يتناسب والدور الريادي للمملكة فيما توليه من رعاية للحرمين الشريفين وأهل الإسلام، إضافة إلى المسؤولية الاجتماعية التي تتميز بها ودورها الإنساني الرائد والمتميز في العمل الخيري الرسمي والفردي التلقائي الذي تبرزه لقاءات وفعاليات ومناشط اليوم الوطني.
اليوم الوطني السعودي يعكس الروح العالية للمواطن السعودي ولغة الإيثار والفزعة والنجدة والتعاون والتفاعل والمواقف والمشاهد وتقبل الآخر. وتبرز فيه القدرات الهائلة للمبادرة للعمل التطوعي والجماعي والمشترك في مشاهد تعليمية وتدريبية من خلال العرضات والعروض والمشاركات والفعاليات المتعددة وكأنها جامعة مفتوحة عمت وشملت الوطن - دام عزك يا وطن -.
اليوم الوطني السعودي يؤسس لأهمية إنشاء جامعة سعودية تعنى بالعمل التطوعي والخيري والإنساني الذي تتميز به المملكة، تجمع تحت مظلتها شتات الأنشطة والجهود والعلوم والمعارف المتعلقة بهذه الجوانب لتنطلق من أرض المملكة الجامعة الوطنية للتطوع والأعمال الخيرية والإنسانية ولعل اليوم الوطني السعودي فرصة مواتية ليصبح مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية جامعة الملك سلمان للتطوع والأعمال الخيرية والإغاثية والإنسانية.
** **
- خبير الفكر الاستراتيجي