د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
- لم يعنِ صاحبَكم يومًا أن يُطلَّ بسيرته أو مسيرته؛ فليس فيها سوى تكرار الوجوه، وتشابه المواقف، ونمطيةِ الادّعاء؛ فالعصاميةُ الكادحة، والانتماءُ الباذخ سمتان تتآلفُ فيهما معظمُ السير لتجمعا المعاناةَ الشخصيةَ من جانب، والجذورَ الأصيلةَ من جانب، ولا شكَّ في صدقها لولا أنها لدى «زيدٍ» كما هي لدى «عَمْرٍ»، ولله جمالُ ما صنعه النحويون بهذين الاسمين فاكتفوا بهما عن التعليل والتدليل بأسماءٍ أُخَر، وليتهم أضافوا إلى فضيلتهم حذفَ «واو عمرو»؛ فهي فضلةٌ لا قيمة لها، ويذكر أنه رفض كتابة هذه الواو ملحقةً باسم جدِّه الكبير الذي ينتسب إليه ( العمرو)، وألحق رفضه بمبحثٍ علميٍ عن زيادتها اللفظية وخللها الإملائي وانحرافها الصوتي، وعارضه - أولَ من عارضه - أسرتُه الكبيرة حتى إنهم اعتذروا عن عدم نشر مبحثه في مجلتهم الحولية فنشره في «الجزيرة» اليومية*، ثم ألفى نفسه مضطرًا للتسليم للكثرة، كما استسلم شيخُنا عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى عام 255هـ بعدما وصف اسمَه « بأرشق الأسماء وأخفها وأزهرها وأسهلها لولا إلصاق الواو به « وعدّه الاسم المظلوم، وأيقن صاحبُكم بتهافتِ نظرية: «لا يصحُّ إلا الصحيح» إذ لم تختبرْ كلَّ الأهواء والفرضيات.
- يدعُ الواوَ وحشوَها ويرى السَّيرَ نحو السِّيرَ بمنظارٍ ألطف؛ فعجزُه عن التحكم بحرفٍ زائد لا يؤهله للحديث عن آلاف الأجزاء الزائدة التي تجاوزت - وفق إحصائية الشيخ محمد بن سعود الحمد في «معجم كتب السير الذاتية في العصر الحديث» - ستة آلافٍ في الطبعة الأولى، والظن أن رقم عشرة آلافٍ ليس بعيدًا في الطبعات القادمة؛ فماذا نضعُ وماذا ندع؟
- لا يلوم ذوي السير الذين اعتذر عنهم صاحب السيرة الخصبة الأستاذ الكبير «أحمد أمين» - المتوفى عام 1954م؛ ففي كتابه «حياتي» أكّد ألّا أحد يقبل عريَ الجسد فكيف يقبل تعريةَ النفس؟!، وهو نفسُه الذي لم يجرؤْ على كتابة كلِّ ما شاءه فأشار إلى بعضه ابنُه جلال في «رحيق العمر» **، وبخاصةٍ ما اتصل بعدم رضا والده عن جمال والدته، استقاءً من مذكراتٍ شخصيةً وجدها أحد أولاده في كراسةٍ مزوية تعود إلى عام 1917م - أي قبل صدور « حياتي» بثلث قرن.
- نترحمُ على أديبنا الكبير وآل بيته، ودون ترددٍ فلو كتب صاحبكم سيرتَه أو كُتبت عنه تطوعًا دون إيحاءٍ أو تكليف فلكي تُؤرشفَ للأولاد والأحفاد ومن يجيءُ بعدهم؛ إذ لن تكون بمستوى سيرتين ذاتيتين سعوديتين؛ صدرت إحداهما في أربعة أجزاءٍ، وما تزال الأخرى تنتظر، وهي بحجم مماثل أو أكبر، وهما سيرة الشيخ إبراهيم بن محمد الحسون *** الموسومة: ( خواطر وذكريات ) ووصفها الناشر الدكتور محمد المشوح بأنها «أجمل سيرة ذاتية سعودية حتى الآن»، ولعل عديدين لم يمُرّوا بها أو لم تمرّ بهم، ولا لوم؛ فقد نفدت طبعتها الأولى سريعًا ففُقدت من السوق، وحينما أعيدت بطبعة ثانية وجزءٍ جديد تراجعت الحالةُ القرائية، ولم تجد من يُسوّقُها، كما طرأَ تعديل يسيرٌ عليها وفق معلوماته ، غير أن الجزء الرابع المضاف للطبعة الثانية لم يرقَ إلى قيمة الأجزاء الثلاثة الأُول، ويعلم الإخوة في مركز ابن صالح الثقافي - الاجتماعي بمدينة صاحب السيرة (عنيزة) طلبَ صاحبِكم الشفاهيَّ والكتابيَّ بتخصيص ندوةٍ عنها وعن صاحبها الذي غادرنا منذ عقدين ولم ينلْ ولم تنلْ ما يستحقانه، رحمه الله.
- أما السيرةُ الثانيةُ التي ما فتئَ الحديث عنها متداولًا فهي سيرة معالي الشيخ جميل الحجيلان حفظه الله، وسنقررُ مع من عايشَ كتابةَ هذه السيرة أنها استغرقتْ أكثر من عشرة أعوامٍ في المراجعة والإضافة والتعديل والإعداد للنشر، وما نزال ننتظرها في كل موسمٍ من مواسم معارض الكتاب، وإذا كنا قد تباطأناها فإننا - في الوقت نفسه - سنلوم المتعجلين بإصدار سيرٍ باهتةٍ لا لون لها ولا دلالة فيها أكثرَ من إضفاء هالات التميز على الأنا، أما أستاذنا أبو عماد فدقيقٌ مدقق، وثقةٌ موثِّق، وسيرتُه ليست تأريخَ عَلَمٍ ذي شأنٍ، ورمزٍ ذي مكانة فحسب؛ بل هي - فوق هذا- سيرةُ وطنٍ وأمةٍ في مرحلة من أهم مراحل التأريخ المحلي والعربي منذ خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية الثالثة، ولو حسبناها وظيفيًا لقاربت سبعين عامًا، أما عمريًا - أطال الله عمره - فقرنٌ مورقٌ بالغربة والتحدي، والعمل والأمل، والعطاء والإباء، والإدارة والإعلام، والدبلوماسية والإنسانية.
- ولد « العُقيليُّ» المغترب - كما وسم نفسه - في دير الزور بسوريا، ودرس بها مرحلة التعليم العام، وأكمل الدراسة الجامعية بمصر، وعمل في إيران وباكستان والكويت وألمانيا وفرنسا، ومديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر، ووزيرًا للإعلام، ووزيرًا للصحة، وأمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي، وكان، كما ظلَّ، مثقفًا أصيلًا متمكنًا من لغاته « لا لغته»، وكاتبًا وشاعرًا ومحللًا سياسيًا بارعًا، ورجل علاقاتٍ نادرًا، وسيدَ أسرةٍ حانيًا، وماذا بعد؟ ومَن مثلُه في تجاربه المتنوعة وخبراته القيادية؟!
- قرأ صاحبكم السيرةَ وقت مراجعتها، ووقت إضافاتها، ووقت اكتمالها، وما ملَ، بل إنه في كل قراءةٍ يضيفُ إلى معارفه نوادر وجواهر في تأريخ الوطن، ويستفيد إضاءات تقارب الأزمات والأحداث التي مرت بها الأمة؛ ومنها: العدوانُ الثلاثي، والوحدةُ المصرية السورية، وحربُ الأيام الستة، وحربُ أكتوبر، وغزوُ العراق للكويت، بتفصيلٍ ميسرٍ ووعيٍ بالأبعاد والآماد، أما أعمالُه، وهو أولُ وزير للإعلام، فلكم أن تتخيلوا دقة المرحلة 1382-1390هـ وما رسمته في صوت الوطن وصورته وكلمته ومسافاته، إذ انطلقت إذاعة الرياض، وبثت محطاتُ التلفزة، واعتُمد نظام المؤسسات الصحفية، ولن يزيد أكثر حولها؛ ففي قراءتها مع بقية محطات معاليه ثروةٌ وآثارٌ وإثارة.
- زار صاحبُكم الشيخَ قريبًا بصحبة ابنه يزن، وبينهما وشيجةُ محبةٍ تدعو الشيخَ أكرمه الله لطلب حضوره معه، فسعدا باستلام مُسَوَّدة السيرة كاملةً مع إهداءٍ مورقٍ من أبي عماد رعاه الله كتب فيها بخطّه:
* * *
(لأخي العزيز الدكتور إبراهيم التركي
أول من عهدت إليه بمراجعة مشروع الكتاب لبراعته واستيعابه للرأي والكلمة، وقد كان خير عون لينطلق هذا الكتاب في مسيرته، أقول لأبي يزن: سأظل شاكرًا ومقدرًا لما كان لكم من دور في تحقيق هذا الإنجاز المتواضع.
** **
- أخوكم/ جميل الحجيلان - 18/9/2022م (الرياض)
* * *
- ولا تعليق على إفضاله سوى أن التواضع ليس للسيرة دون ريب، بل لجهود مُراجعِها الأول كما أشار، ولا ننسى أستاذنا - الذي ترافق معه صاحبُكم في المهمة - فتزامنا وقتًا واختلفا نهجًا؛ فقيدَنا الغالي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، طيَّب اللهُ ثراه.
- لو شاء الشيخ جميل حظوةً إعلاميةً أو مظهرًا تسويقيًا أو مبيعاتٍ وتقريظات وتوقيعاتٍ وندواتٍ لصدرت قبل أعوام، لكنه رآها ونراها سيرةً شاملةً يقلُّ نظيرُها، وحين تُخرجُ كما شاءها، وتُطبع مثلما ارتآها فستكون للأجيال لا للآجال مصطفةً بجانب أبرزِ السير الذاتية العربية، حفظ الله الشيخ وأمدّه بعونه.
- السيرة الثرية تكتب اليوم لتُقرأ غدا.
إحالات
* متى تختفي واو عمرو من إملائنا - الجزيرة - 16 يوليو «تموز» 2016م
** رحيق العمر - جلال أحمد أمين - الطبعة الأولى - 2010م
*** إبراهيم بن محمد الحسون 1911-2005م