الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يسعى بعض الناس إلى انتهاك أعراض الآخرين بالحديث عنهم، تارة بالانتقاص منهم، وتارة أخرى بالاسقاطات غير الصحيحة تجاههم، وذلك بسبب الحسد والحقد والغيرة، ولا شك أن هذه السلوكيات السيئة غير السوية تتنافى مع تعاليم وآداب الإسلام، وخلاف للعادات والأعراف الاجتماعية. "الجزيرة" التقت مع شرائح متعددة من المجتمع في مختلف المجالات، لاستطلاع رأيهم حول أسباب ذلك، ومعرفة الطريقة المثلى لعلاج مثل هذه التصرفات المشينة.
تقويم السلوك
استهل الشيخ زياد بن عبدالكريم المشيقح مدير جهاز الإرشاد والتوجيه بوزارة الحرس الوطني بمنطقة القصيم حديثه، بقول الله سبحانه وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؛ فالمسلم يؤمن بأنه ما يتلفظ به من قول أو يقوم به من عمل فهو مكتوب محصى سواء كان كبيراً أو صغيراً وسواء كان جهراً أو سراً، فكل ذلك يكتب ويحصى، ويوم القيامة يعطى كل إنسان كتابه فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، فطوبى لعبد ملأ كتابه بالخير والأعمال الصالحات، وبؤساً لمن سوّد كتابه بالشر والأعمال السيئات. ولا يخفى على كل مؤمن بأنه لا يجوز انتهاك أعراض الناس والانتقاص منهم قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم..) فأعراض الناس والحديث عنهم والنيل منهم في المجالس ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها محرمة بالكتاب والسنة.
من هذا المنطلق يُقوِّم الإنسان سلوكه، ويصحح تصرفاته، ولا ينال من أعراض الناس، والتي غالباً تأتي بسبب الغيرة والحسد، وموافقة الأقران ومجاملتهم في الهزل والسخرية ببعض الناس لكي يضحك من حوله، وغالباً ما يأتي هذا السلوك السيئ من الفراغ والشعور بالملل فيشغل نفسه بأعراض الناس.
وأوضح المشيقح الطريقة المثلى في علاج هذه التصرفات المشينة حيث تتمثل في تحقيق الاستقامة بالدين والتحلي بالقيم الإسلامية، واستشعار مراقبة الله عز وجل، والعمل بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من أعراض الناس، ومن الغيبة والنميمة والسخرية واستنقاص الآخرين، وكذلك الانشغال بذكر الله تعالى، وبالطاعات، والمداومة على تلاوة القرآن الكريم وتدبره ليكون سبباً في إشغال وقته بما يعود عليه بالخير والبركة، والبُعد عن أعراض الناس والتخلي عن الصفات التي تُحبط الأعمال وتأكل الحسنات، فانتهاك أعراض الناس مرض خطير وداء فتاك تُفسد المجالس وتقضي على بعض العلاقات الزوجية والأسرية والأخوية.
ومما يساعد على التخلي من هذا السلوك الدنيء البُعد عن المجالس وعن قروبات برامج التواصل الاجتماعي التي يكثر فيها الحديث بأعراض الآخرين وعدم المجاملة في هذا الجانب لكسب رضى الناس.
وختاماً لو أن كل واحد انشغل بنفسه وقام بواجبه تجاه بيته وأسرته وتربية أولاده وبر والديه وأداء الأمانة التي في عاتقه من عمل أو تجارة، لتعلق بمعالي الأمور، وحال بينه وبين سفهاء الناس، وجنَّب نفسه الحِقد والحسَد والغيبة والنميمة.
قولية وفعلية
ويوضح الأستاذ ذيب بن محمد الدوسري الباحث والمستشار القانوني إلى أن صور انتهاك أعراض الآخرين تتعدد بين القولية والفعلية؛ فالقولية مثل الغيبة والنميمة، وهي تسبب الوقيعة والمشاحنات بين الناس بسبب نقل الكلام الذي ربما يكون غير صحيح في معظم الأحيان، وقد حرم الدين الحنيف هذه الصفة الذميمة، قال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، وقد نهى الإسلام عن الغيبة لما توقع في النفس من الكراهة وقد شبهها القرآن بأكل لحم الإنسان ميتاً، وهو شيء لا تقبله النفس البشرية على أي دين كانت، وقد بين لنا الرسوم صلى الله عليه وسلم حد الغيبة في قوله (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)، مشيراً إلى أن من صور الغيبة القول بالهمز واللمز، وقد نهانا القرآن الكريم عن الهمز واللمز، قال تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، وقوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، ومن صور الغيبة اللفظية أيضاً الطعن في الأنساب، وقد حذرنا الشرع الحنيف من الخوض في الأنساب فهو نوع من القذف، كما حذرنا الله سبحانه وتعالى عن القول بما لا نعلم، قال تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. ومن صور الغيبة اللفظية السبّ ومعناه الشتم مشافهة للإنسان بما يكره، ولقد نهانا الدين الحنيف عن هذا الخلق المذموم وشدد في الزجر لما فيه من انتهاك لأعراض الآخرين وبما يتنافى مع الطبع السليم ولا تقبله النفس البشرية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). ومن صور الغيبة اللفظية القذف وهو الرمي بالزنا أي السب به، ولأن القذف هو الاتهام بكبيرة فهو من أقوى صور الانتهاك اللفظية والتي نهى عنها الشرع الحنيف حرصاً على ترابط المجتمع، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}. ومن الصور الفعلية لانتهاك الأعراض إطلاق البصر والنظر إلى ما حرمه الله سواء كان بمجرد البصر أو التلصص على الآمرين في خصوصياتهم، ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بغض البصر، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. ومن الصور الفعلية لانتهاك الأعراض التجسس وهو التفتيش في بواطن الأمور والبحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس، والتجسس من أشد الصور الفعلية لانتهاك الأعراض، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التجسس حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}، ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التجسس والتحذير منه وبين أنه مُفسد للأُخوة وسبب في تقطيع أواصر المحبة والود بين الناس، حيث قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً). ومن الصور الفعلية لانتهاك الأعراض الزنا، وهو من أشد صور انتهاك الأعراض، وقد حذرنا ربنا من هذا الفعل الشنيع فقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الفاحشة حيث قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)، ومن الصور الفعلية لانتهاك الأعراض القتل، وهو إزهاق الروح، وهو من أقوى صور انتهاك الأعراض ومن الكبائر التي شدد الشرع الحنيف عن الابتعاد عنها وما يؤدي إليها وغلظ عقوبة فاعلها حرصاً على النفوس وحفظاً لها، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وقال أيضاً {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (93) سورة النساء.
قوة الوازع الديني
ويواصل الأستاذ ذيب الدوسري حديثه قائلاً: تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى انتهاك الأعراض ما بين الديني والاجتماعي والشخصي؛ فلا شك أن قوة الوازع الديني لدى الشخص هو العاصم له بعد توفيق الله من الوقوع فيما هو محرم ومحظور عليه أن يقوله أو يفعله، وإن من أقوى أسباب انتهاك الفرد لأعراض الآخرين هو ضعف الوازع الديني ومن ثم أصبح متجرءاً على انتهاك محارم الله وحدوده والتي منها انتهاك الأعراض والخوض فيها، ولقد أصبح ضعف الوازع الديني أمراً ملموساً وشائعاً في عصرنا الحاضر وأثر سلباً في سلوك الكثير من الناس فأصبحوا لا يبالون بما يقولون وما يفعلون، وأصبحت المادة هي المسيطرة على سلوك الأفراد وكثرت الانتهاكات بكل أشكالها بسبب عدم توافر البيئة الإيمانية المناسبة فأصبح الناس ماديين لا يرهبون قوة إلهية مهيمنة ولا يرتدع الناس بنص ديني من كتاب مقدس أو سيرة نبي. ويعود هذا الضعف إلى أسباب عدة أهمها عدم وجود أسرة متدينة توفر بيئة إيمانية وتساعد الفرد على التنشئة بمحبة الله والخوف منه والامتثال لأوامره والانتهاء عما نهى عنه. كما أن من أسباب انتهاك الأعراض الجهل، وهو من أكثر الأسباب التي تؤدي لانتهاك حرمات الله، فانعدام العلم بالصحيح من عدمه وما يجب فعله وما هو محظور يجعل النفس البشرية تجرؤ على انتهاك الحرمات دون ضمير أو وازع داخلي يمنعها من فعل ما هو محرم، ولاشك أن الجهل هو أساس كل شر وبلية وسبب قوي من أسباب انتهاك المحارم وقد يدفع صاحبه إلى الشرك أو ارتكاب الكبائر دون رادع من داخله، وقد كان الجاهل دافعاً لقوم لوط في ارتكاب جريمتهم البشعة، قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}، وقال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ})، وتشتد سواعد الجهل وتعظم مصيبته حينما يعتري سادة القوم ومن بيدهم دفة الأمور؛ فإن تأثيره يكون مضاعفاً، ولقد جاء التحذير من ترؤس الجهلة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن من أشراط الساعة ثلاثة: إحداهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، والأصاغر من لا علم لهم، ومن أسباب انتهاك الأعراض شرب الخمور حيث أنها تُذهب العقل ومن ثم حرم الدين الإلامي شرب الخمور لما لها من أضرار على النفس وعلى الغير، وحيث إن غياب العقل يأتي بعده غياب كل شيء فلا يستطيع المرء أن يُفرق بين الصواب والخطأ وينتهك حرمات الآخرين بلا رادع ولا وازع بسبب غياب عقله الذي يمكنه من التمييز بين الأمور، والخمر محرم بنص القرآن الصريح حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ومن أسباب انتهاك الأعراض الاختلاط بين الرجال والنساء والذي ربما يكون سبباً في انتهاك الحرمات لما فيه من التهيئة لبيئة مناسبة لمزيد من التقارب بين الجنسين الأمر الذي ينتج عنه مفاسد عظيمة وفتح باب الفتنة وثوران الشهوات، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاط الرجال بالنساء حتى في المساجد حيث أمر بفصل صفوف الرجال عن النساء والمكث بعد السلام حتى ينصرف النساء أولاً وتخصيص باب خاص بهم في المسجد، ومن الأسباب التي لا تؤدي إلى انتهاك الأعراض هي غياب القدوة الصالحة والتي حلت محلها قدوات فاسدة ونماذج مُزيفة أفسدت الذوق العام وحولت التافهين إلى نماذج يحتذي بها الصبيان والشباب ويقلدونهم في أسلوب الحياة وفي تصرفاتهم من أقوال وأفعال ومنهم من يحتسي الخمر ويرتكب الفواحش على شاشات التلفاز ليل نهار. فمثل هؤلاء يجعلون الشباب يستسيغون الفواحش وانتهاك الحرمات على أنها أمر عادي يفعله حتى المشاهير، كما أن غياب القدوة من المصائب التي ابتليت بها مجتمعاتنا الإسلامية وأُصيبت في صميمها حين افتقدت القدوة في المبادئ والأفكار والتصرفات، القدوة التي تجمع الناس حولها كمثل أعلى يُحتذى به في القول والفعل، ولقد حث الله الناس في كتابه العزيز على الالتفاف حول الصحبة الصالحة في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
ومن أسباب انتهاك أعراض الآخرين البيئة الفاسدة فهي لها دور كبير وفعال في تكون فكر الأفراد واتجاهاتهم، وحينما نقول البيئة نقصد بها البيت والمدرسة والشارع والمجتمع كله. فنشأة الإنسان في بيئة فاسدة تستبيح له المحرمات والمنهيات ومن ثم فإنه يعتادها ويألفها دون رادع أو ضمير يؤنبه، ومن أسباب انتهاك أعراض الآخرين وسائل الإعلام ذلك السلاح الفتاك الذي تتشعب تأثيراته في جوانب الحياة كافة ويؤثر في كل أفراد المجتمع بشتى مراحله العمرية من الطفولة وحتى الشيخوخة.
ومما سبق ذكره، لا شك أن انتهاك الأعراض له تأثير كبير على الفرد والمجتمع، حيث إن المجتمع ما هو إلا مجموعة من الأفراد؛ فصلاح الأفراد يعني صلاح المجتمع والعكس؛ فانتشار الفواحش بين الأفراد يُنتج مجتمعًا منحلاً غير مُترابط مليئًا بالاضطرابات لا أمن فيه ولا استقرار، ومن ثم فإن الدين الإسلامي حريص على حفظ النفوس والأعراض وغلظ عقوبة من ينتهك هذه الحرمات، ودأب الشريعة الإسلامية وأحد أهم مبادئها هو أن درء المفاسد مُقدم على جلب المصالح، وقد حرم الدين الإسلامي كل ما فيه انتهاك للأشخاص أو ممتلكاتهم، فقد حرم الرشوة والربا والسرقة بهدف حفظ الأموال، وحرم الزنا لحفظ الأنساب. وفي القانون الوضعي، سنت الدول القوانين التي تحمي من يدافع عن عرضه أو شرفه أو نفسه أو ماله من العقوبة، ومن الوسائل التي تساعد في حماية المجتمع من انتهاك الأعراض تقوية الوازع الديني لدى الأفراد حيث إن الفرد إذا استقام دينياً فكل شئون حياته ستستقيم وبالعكس، وتفعيل دور الدعاة المؤثرين في المجتمع وإفساح المجال لهم في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للمجتمع التشبع بأفكار إيجابية من شأنها خلق جيل سوي يعرف دينه وماله من حقوق وما عليه من واجبات تجاه أسرته ومجتمعه ووطنه.
ومن الوسائل المؤثرة التي تساعد على منع انتشار الفواحش وانتهاك الأعراض في المجتمع تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك عن طريق الدعاة ووسائل الإعلام والتواصل ونشر التوعية في المؤسسات التعليمية، وتضمين دروس في المناهج توضح أثر انتهاك الأعراض على الفرد والمجتمع، أسبابه وطرق تفاديه، ولا شك أن تفعيل القوانين المجرمة لانتهاك الأعراض بكل أشكالها وتغليظ العقوبة لمثل هذه الجرائم. وأخيراً وليس آخراً تفعيل دور المنظمات الأهلية والمؤسسات الخيرية في وضع أساليب وطرق مناسبة لحل مثل هذه المشكلات من خلال ندوات ومؤتمرات من شأنها توضيح صور الانتهاك وأسبابه ونتائجه.
رذائل الأمور
يقول الدكتور نايف بن عبدالله بن عبدالرحمن العُمري استشاري طب الأسرة المشارك بمدينة الملك سعود الطبية: السعي والخوض في أعراض الناس يُعدُّ من كبائر الذنوب، خصوصاً عند ذكرك أخاك بما يكره سواءً بما كان فيه أو ما لم يكن فيه، فقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) رواه مسلم. ويضيف الدكتور نايف العُمري قائلاً: وعندما يتأمل الإنسان في مثل هذه السلوكيات غير السويّة يجد لها أسباباً كثيرة منها: الحقد والحسد، وموافقة الأصدقاء ومجاملة الجلساء، واللّعب والهزل، والاهتمام بالناس دون النفس، ولا شك أن الغيبة والحديث في أعراض الناس تُعد جريمة خطرها على الفرد والمجتمع وتوقع الإنسان في الموبقات والدركات، وقد كثر خطرها وصارت مائدة لمجالس البعض ووسيلةً للتنفيس عن الغضب والحقد والحسد دون إدراك حرمتها وشدة ضررها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لمّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم). فديننا الحنيف يحثنا على مكارم الأخلاق ومن أعظمها الكف عن أعراض الناس، لأن الخوض بالأعراض من الرذائل الأخلاقية حتى وإن كان ما قيل صدقًا، فكمال الإيمان ليس بالصلاة والصيام فقط، بل بتمام الأخلاق وإمساك اللسان عن الانزلاق في رذائل الأمور.
يقول بعض السلف: "أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس". ويكفي عن ذلك كله نهي الله سبحانه وتعالى عنها وشبه فاعلها بصورة مكروهة للإنسان وينفر منها طبعه، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، مشيراً إلى أن علاج مثل هذه التصرفات والسلوكيات المشينة يقع على عاتق المجتمع أولاً من خلال استشعار رقابة الله تعالى في القول والعمل، وتذكير الفاعل بغضب الله تعالى وأنّ الخوض في الأعراض من كبائر الذنوب، والحرص على نصحه وردّه إلى الصواب، وعلى من يمارس تلك التصرفات والسلوكيات أن يتزود بما يعينه على اجتناب هذا الداء العظيم وأن لا يفتر لسانه عن الدعاء لنفسه بالشفاء من هذه الآفات، والحرص على الصحبة الصالحة ومجالسة أهل الخير.
الغيرة عند الرجال!
ويؤكد الشاعر مهدي بن مسفر الحبابي على انتشار هذه السلوكيات السيئة في مجتمعاتنا في الوقت الراهن حيث الغيرة بين الرجال وهذا لم يكن في الزمان الماضي، فما نشاهده مما انتشر بين الناس من يتكلم في رجال معروفين ويحاول أن يقلل من شأنهم ببعض الكلمات أو الاسقاطات غير الصحيحة، وإذا وجد أشخاص يثنون على من يستحق المدح تجده يبذل كل السبل من أجل تشويه صورة ذلك الشخص المديح، ودافع ذلك غيرة أو حسد أو سموها ما تشاؤون، وعلى الجميع عدم سماع ما يقال عن الشخص سوءاً من أقربائه أو من زملائه، ولا يحكم على الشخص إلا بما تراه منه؛ فقد يكون جميع ما يقال عنه مخالفاً للحقيقة، وتكون تصرفاتك مبنية على ما يقال عن الأشخاص وليس عن ما تشاهده، ويجب عدم الاستعجال في الحكم على الآخرين، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
الفاحش البذيء
ويرجع الأستاذ عبدالقادر بن سليمان مكي المستشار في الخطوط السعودية، وشركة أرامكو، السبب لضعف الوازع الديني وموت الضمير بسبب الحقد والحسد والغيرة من شخص ما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفاحش المتفحش"، وقال: "إن أثقل ما يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذيء"، وقال صلوات الله وسلامه عليه: إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفحش ونشر الإشاعات والفضائح بسبب الحسد والحقد والتنابز بالألقاب البذيئة والسباب بين الناس محرمٌ شرعاً ولا يجوز في أي حال من الأحوال بل هو من باب نشر الفاحشة.