د.علي زعلة
عندما ترد كلمة (القبيلة) فهي ليست نقيصةً أو عيباً اجتماعياً ولا ثقافياً، وإنما تشير هنا إلى مفهوم القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية وسياسية يُعتقد أنها تستند في انبنائها وتطورها إلى فرضية الجد المشترك، وإن كان وهمياً، وتستمد كيانها وهويتها من وحدة المجال الذي تسكنه وتدافع عنه، فهي -بذلك- تشير إلى وحدة كبرى، تكبر وتتشعب وتتحول إلى قبيلة واسعة، كما تتعرض للتفكك والتشرذم بفعل الدينامية الداخلية، أو بفعل ضغوطٍ خارجية، قد تتعرض لها من طرف الجيران أو من جهة السلطة المركزية.
وقد منَّ الله تعالى على هذه البلاد بشخصية قيادية نادرة؛ هي شخصية الملك عبد العزيز -رحمة الله تعالى عليه- فبرغم الظروف القاسية لطبيعة الأرض وجغرافيتها، والطبائع السياسية والاجتماعية القبلية السائدة في الجزيرة العربية؛ نجح -بتوفيق الله ثم بفرادته القيادية- في تأسيس الدولة وتوحيد القبائل، وسدّ احتياجات الدولة ومؤسساتها الناشئة إلى بنية بيروقراطية إدارية، فكان لدور الزعامة القادرة والموفقة للملك عبد العزيز -رحمه الله- بوصفه سياسياً محنكاً بعيد النظر، أثرٌ كبير في تحقيق ما لا يمكن للبيروقراطية الاعتيادية أن تحققه في مثل تلك الظروف الاستثنائية، وذلك بما حباه الله من رؤية وقدرات ومهارات طبيعية أهلته للوصول إلى تلك النتائج.
تقتضي الوحدة الوطنية انتقالَ التركيبة الاجتماعية من روح القبلية إلى روح المواطنة؛ إذ «تشكل المواطنة عصب الديمقراطية، وهي حقوق وواجبات تتعايش -من خلالها- الخصوصيات الحضارية والثقافية، ويتقوّى -من خلالها- الشعور بالمواطنة داخل المجتمعات التي تترسخ فيها قيم العدالة والحرية والمساواة، ولذلك فالشعور بالمواطنة هو مؤشر على تمتع الإنسان بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية والسياسية» (موسوعة المفاهيم الأساسية) وقد عكست الرواية السعودية -في معظم نصوصها- هذه الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية، كما عرضت بعض ممارسات الذات المنغلقة، التي نظرت إلى الآخر الاجتماعي من منطلقاتٍ قبلية صنعت منه آخر داخلياً، فلم تتقبل الذات -في بعض تمثيلاتها الروائية- التحولَ من نظام القبيلة والتضامن القبلي وتنظيم العلاقات حسب أولويات علائق القرابة والدم، إلى مفاهيم استقلال الفرد وحريته المدنية والاجتماعية التي يكفلها مفهوم الدولة، وتُعليها قيم المجتمع الحديث. ومثل ذلك ورد في عدة روايات؛ ظهر فيها احتقار بعض الفئات بسبب اختلاف أنسابهم عن النمط القبلي السائد، كما في رواية (حلة العبيد) لطارق الحيدر التي عاملت فيها الذات القبلية المتعصبة عدداً من الأسر والعائلات والمناطق بالاستصغار والاحتقار، ورواية (وحشة النهار) لخالد اليوسف التي أُقصيَ فيها صالح الكفيخي وأولادُه بسبب جهلهم بنسبهم، وروايات أخرى كثيرة مَنعت فيها القبيلةُ تزويج بناتها من أشخاص محترمين، بسبب النسب ليس غير؛ من بينها رواية (سقر) لعائشة الحشر، ورواية (أنثى تشطر القبيلة) لإبراهيم شحبي.
لعل الذوات المنغلقة لم تدرك -مع كل عوامل التثقيف والتعليم وموجات التنوير التي حقنتها الدولة في أوردة المجتمع- أن قدراً كبيراً من تلك القيم والمفاهيم، إنما هو نابع من القيم الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قبل أن تكون من سمات المجتمعات الحديثة وخصائصها. ولكنّ التلقي البشري والممارسات الفكرية والسلوكية المنحرفة باسم الدين، والبعد عن النهج الإسلامي القويم جعل مثل تلك القيم القبلية تتعزز في النفوس وتتوارثها الأجيال، وتعاني جراءَها فئاتٌ اجتماعية -حسب ما صورته بعض الروايات- لتظهر في هيئة أقليات اجتماعية منبوذة من قِبل الجماعة الإقصائية المنغلقة؛ حيث تَولّدَ الآخرُ الاجتماعي عبر عنصر النسب، وعنصر اللون، أو العرق، أو الطوائف المهمّشة، من الحرفيين أو الخدم أو غيرهم، واستعصت الذات المغلقة على الاستجابة لمفهوم المواطنة، الذي يجعل من الآخر شريكاً مواتياً للتعايش وبناء الوطن وتنميته، وتعزيز وحدته المتعددة لا وحدته الأحادية المتطابقة، فيكون تنوعه وجهاً من وجوه تماسكه وقوته وثراء منجزاته.