د. فهد بن علي العليان
بعد أن خرج كتابي مطبوعاً بعنوان: (حكايا من الذاكرة) عن دار جداول للنشر، أدركت أن هناك شخصيات لم يسعفني الوقت لأكتب عنها بياناً لحقّها وإخباراً بفضلها، ومن هذه الشخصيات أستاذي القدير عبدالله القناص (أبو تركي) الذي درسني في ابتدائية زهير بن أبي سلمى بمدينة الرياض خلال الفترة من عام 1379 - 1400هـ؛ بعد أن قدمنا إلى الرياض في انتقال عائلي كبير، يقوده والدي وأعمامي بصحبة جدي وجدتي -رحمهما الله- عام 1395هـ، حيث استقرت راحلتنا لنسكن بيتاً طينياً قرب (شارع الريل) لأدرس الصف الثاني الابتدائي في مدرسة سعد بن أبي وقاص، ثم ننتقل بعد ذلك إلى حي الصالحية في بيتنا الذي ضم العائلة الكبيرة وهو لم يتجاوز 90م، بجوار مدرسة زهير بن أبي سلمى الابتدائية التي التحقت بها بدءًا من الصف الثالث، إلى أن تخرجت منها عام 1400هـ.
في ذلك الحي وفي تلك المدرسة زاملت كثيرين، أرى وألتقي بعضهم إلى هذا اليوم، وكذلك علمني ودرسني معلمون كثر، ذهب أغلبيتهم في دهاليز الحياة، لكن أستاذي (عبدالله القناص) من المعلمين القلائل الذين بقيت علاقتنا معه إلى هذا اليوم حتى بعد مغادرته المدرسة، وتفرقنا في ردهات الحياة والانتقالات.
كان عبدالله القناص في تلك الفترة معلماً شاباً أنيقاً قريباً من طلابه، يحاكي واقعهم ويتحدث معهم بلغتهم، يعرف رغباتهم ويقدر اهتماماتهم المتنوعة.
وبحكم أن شباب تلك المرحلة محبون للرياضة، فقد كان يتحدث معنا حولها بحكم اهتماماته الرياضية، كما كان قريباً جداً من الجميع يمنحهم الفرصة للتعبير عما يدور في أنفسهم دون تكلف أو إقصاء.
غادرت المدرسة وحي الصالحية وأكملت مسيرتي في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وبقي (أبو تركي) في عقلي وقلبي، وهل يبقى إلا الذين لهم في النفس مكانة وتركوا بصمات في عقول طلابهم؟!
انقطعت أخباره، بعد أن انتقل وتنقل في بلدان ومحطات متعددة، حتى استقر في مسقط رأسه مدينة (بريدة) مواصلاً مهنته، ومكملاً حضوره النشط في المجال الرياضي، ليصبح نائب رئيس مجلس إدارة نادي الرائد، حينها كنت أزور بريدة أثناء وقت احتفاء النادي واحتفاله بصعوده للدوري الممتاز، فقررت الذهاب إلى مقر النادي للسلام على أستاذي بعد سنوات كثيرة لم أره فيها، وقفت على باب النادي وطلبت لقاءه، وما أن عرف باسمي حتى استقبلني مرحباً مبتسماً كما عهدته عنه من بشاشة وترحاب، صافحته وتحدثت معه واستأذنت بالانصراف حتى لا أسرق وقته.
استمرت مسيرة الحياة تقذف بي من طور إلى طور ومن مرحلة إلى أخرى، وبعد أن أنهيت دراسة مرحلة الدكتوراه في أمريكا، وعدت لأرض الوطن أستاذاً في الجامعة، بحثت مرة أخرى عن هاتفه، واتصلت به ليقابل اتصالي بفرحة وبهجة بتواصلي وسؤالي، مخبراً أنه رآني في إحدى مشاركاتي التلفزيونية مسروراً بذلك، ثم تواعدنا على اللقاء ليشرفني في منزلي بحضور مجموعة من طلابه الذين سعدوا كثيراً بلقائه، بل إن أحدهم -مشكوراً- طبع قبلة على رأس أستاذنا؛ مما كان لذلك أكبر الأثر في نفسه، كما أخبرني هو بذلك.
استمرت الأيام وبقي تواصلنا مع تقصيري في حقه، إلى أن وصلت لليوم الذي أكتب فيه هذه الحروف تقديراً ومحبة للأستاذ الذي غادر عمله الوظيفي، وبقي تقديره بين محبيه وطلابه إلى هذا اليوم. وأجزم أن من يقرأ هذه الحروف من طلاب ابتدائية زهير بن أبي سلمى بحي الصالحية في الرياض -ممن أعرفهم والذين لا أعرفهم- يشاركونني المشاعر تجاه أستاذنا الغالي والعالي عبدالله القناص.
انتهت المساحة، ولم أستطع أن أخبركم عن مشاركاته الوطنية الفاعلة في لجان رياضية مختلفة، أسهم فيها بفاعلية وحيوية ودعم مستمر.
(التدريس... حياة)..