[تابع لسابق]
إشكاليَّة هذا النَّصُّ -بدت لي- هي أثرٌ من آثار الوجادة، فقد تتابع القوم على قراءة أوائلهم آخذين ما قالوه بالتَّسليم، متلمِّسين كشف ما أبانوه من جهل بالنَّصِّ وهلاك أصحابه وقائليه، فليس للقوم بعد ذلك إلَّا التَّسليم بصحَّة القولة ومحاولة كشف معناها وتوجيهها نحويّاً وبيانها إعرابيّاً، فجالوا بذلك محاولين غاية المحاولة، خالِفُهم يوافق سالِفَهم أو يخالفه حيناً فحيناً، فيحكم بأنَّ الأقاويل في فسرها لا تكشف حقيقتها ولا تليق بالمسألة.
وإذا انفتح لأحدٍ في ذلك مشرعة رأيٍ ووجهة نظرٍ وإن لم يُسبق إليه، إذا لم يُرَ فيه طعناً فيمن سَبَق ولا هتماً لجهد من غَبَر، بل غاية جهده أن يورد ما ظهر له مواردَ الاجتهاد فلا مانع من ذكره وعرضه دون المساس بأعراض العلماء السَّابقين الصَّالحين.
والمسألة عريضة اجتهاد، وهم مدفوع عنهم الجهل، والعصمة مرفوعة عن الجميع، وللهِ درُّ نجم الدِّين الطُّوفيِّ (ت 716هـ) حيث قال عن مصنَّفه في قواعد التَّفسير: «ولم أضع هذا القانون لمن يجمد عند الأقوال، ويصمد لكلِّ من أطلق لسانه وقال، بل وضعته لمن لا يغترُّ بالمحال، وعرف الرِّجالَ بالحقِّ لا الحقَّ بالرِّجال». [الإكسير في علم التَّفسير: 2]
وإنَّه لمن مستوجبات شرف العلم على أهله والمنتسبين إليه أن يكون من جهادهم حماية جنابه، ومن حماية جنابه بذل الجهد والسَّعي لبيانه وكشف غامضه إذا بان لأحدٍ منه شيء أو لاح، ومن الواجبات حفظ ذمام أربابه، وكذلك من لوازم الفضل ومحامد المروءة صيانة أعراض العلماء الأسلاف السَّابقين أولي الفضل والذَّود عنها، وعدم الطعن فيهم لا تصريحاً ولا تلويحاً، فهم الَّذين أنهضوا هذا العلم حصوناً وقلاعاً لطلاَّب العلم، فطلاب العلم يلوذون بها ينهلون من معينها، ومريدو المعرفة يستظلون في ظلالها، ويستروحون في رحباتها.
إنَّ حديث كتاب سيبويه حديث لا يبلى على قدمه، والكتاب فيه خبايا وخفايا ومبهمات أكبر أسبابها أنَّه لم يقرأ على مصنِّفه، بل وجد وجادةً بعد رحيله، وكُتب في عهدٍ وزمانٍ ورجالٍ غير الرِّجال والزَّمان والعهد اللاحق له، وكان الكتاب كتاباً ضخماً حاوياً جامعاً علوم العربيَّة. إليه المنتهى في النَّحو ومنه المبتدأ، عرفه البصريُّ وألفه الكوفيُّ.
اعتنى به البصريُّون من الأخفش إلى المازنيُّ فالمبرَّد، ولقفه الكوفيُّون الكسائيُّ والفرَّاء فثعلب يأخذون منه ويفيدون، ويداخلون عليه بالاستهداف ممَّا لا يرونه وجيهاً بمذهبهم، أو جاء على خلاف سَنَنهم، كلُّ هذه الأجيال مضت وتعاقبت، وفرطت هذه الأحقاب وتلاحقت والكتاب مازال روضاً خصيباً، وميداناً رحيباً لمن رام أخذ العلم علم العربيَّة النَّحو من أصوله على أصوله.
وكان ممَّا أورده الإمام سيبويه في كتابه مع القياس والتَّعليل والتَّحليل السَّماع من العرب الفصحاء أمثالاً وحكماً، وأشعاراً ورجزاً، ومواعظ وخطباً، فمن ذلك ما جاء في كتاب سيبويه في كلامه عن الحذف من قولة:» ما أغفله عنك شيئاً»= هذه القولة اعتلكت فيها الأذهان وتبلبلت بها الألسن، ووقعت منها الحيرة عند الجلَّة من العلماء فضلاً عمَّن دونهم= استشكالاً في فسر معناها، وكشفاً عن إعراب مبناها، والقوم لم يؤتوا من جهلٍ، فالجهالة عنهم مدفوعة، ولكنَّ المأخذ هو أنَّهم لم يأخذوا خبرها من مدوِّنها مصنِّف الكتاب ولا من شيخه الخليل بل وجدوه وجادةً.
وأقول -ولا أحسبني واهماً- إنَّ قصيَّا شِرَّةِ الأمر الكنود -في ظنِّي وفيما أدَّاه لي النَّظر- أنَّ هذا النَّصَّ وقع فيه تحريف إبَّان قراءته، وحدث به تخليط وقت روايته، ورُوي بالتَّصحيف في رواياتٍ، وكان هذا الثُّلاثيُّ عقبته الكؤود، وهذه العقبة ما كانت لتكون لولا تَلقِّي الكتاب بالوجادة، وهذه آفة من آفات الوجادة وتُلفة من تُلف الصُحُفيِّة، وقد جاء في ذكر سبب علوِّ مرتبة المبرَّد على ثعلبٍ في علم كتاب سيبويه أنَّ المبرَّد قرأه على العلماء وثعلباً قرأه على نفسه [طبقات النَّحويِّين: 156]، فالقراءة على النَّفس وإن كانت أيسر مركباً فهي مورطة مصحِّفة.
وأخذ العلم من الصُّحف تقع به المزلِّة ويسري إلى متلقِّيه منه الخلل وإن كان الأخذ ليس كلُّه عيباً أو منقوداً، غير أنَّه مثلبة، ويندفع هذا الثَّلب والثَّلم إن لم يكن إلاَّ إيَّاه طريق، فليس منه حينئذٍ مهرب، وسيُنسلك مع جادَّته ويُحذر من عثرته، وسيكون عِلماً غير متنخَّل= هذا بخلاف الإجازة الَّتي فيها قراءة الكتاب على مصنِّفه أو روايته عن صاحبه ومن أهله، فالعلم بطريقها متنخَّل.
وقد يسِّر الله لي بفضله بهجة محاولة فسر هذه القولة السِّيبويهيَّة بطرح التَّخليط منها، ونبذ التَّحريف عنها، ودفع التَّصحيف منها، وقراءة النَّصِّ في سياق نظمه وسباق كَلِمِه، ورصفه بقرائنه فأكنت على هذا بحثاً نُشر -بحمد الله- في مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة، عنوانه (قوله: «ما أغفله عنك شيئاً» في كتاب سيبويه.. حديث في روايتها، وتصحيح لتأويلها، وكشف عن حقيقتها).
وقد انكشف بهذا البحث حكايةُ هذه القولة المأثورة الَّتي طوى الدَّهر أصحابها وقائليها، وقد دار حولها وفيها إشكال فهمٍ قديمٍ حديثٍ أدَّى إلى إغراقٍ في توجيهه، يدركه من نظر في الأوجه الإعرابية الَّتي خرِّجت عليها القولة وفسِّر به معناها.
وعند انبساط النَّظر وتمحيص التَّبصُّر في تآليف الكلام يخالجك ريبٌ تحاول كشف شكِّك فيه، فينهدم ذلك الابتناء في داخلك بأنَّ أصحاب هذا الكلام قد ذهبوا، وبقي ما رووه فحسب؛ فيلزمك حينئذٍ إعساف الأمر وِفاق حدوده، واعتساف هذا المركب حول رسومه.
وغلبة ظنَّي كشفاً للإشكال وفكّاً للاشتجار يكون بدرك سبب الغموض وعلَّة الخفاء، ومفاتحه هو أنَّ القولة أُلحمت جملة واحدة، وحقيقتها جملتان، ونالها التَّحريف ومعه قد ركبها التَّصحيف فكان أن اكتنف هذه القولة التَّخليط والتَّحريف والتَّصحيف، وقد قرأتُ معاناتها من جهات أولاء الثُّلاثيِّ، إذ كان هذا الثُّلاثيُّ خللاً من آثار الوجادة لعلَّه بهذا البحث قد انكشف غطاؤه.
وبعد لأيٍ ظهرت القولة مكوَّنة من جملتين لغير واحدٍ لا جملة واحدة لواحدٍ، وهي تركيبان لا تركيب واحد على غير مَكشف قول القائلين السَّابقين، وإن انتكشوا شيئاً ممَّا توصَّلتُ إليه فما صمدوا إليه أَمَماً.
وجماع أمر كتاب سيبويه أنَّه واقع بين خطٍّ خاصٍّ بالإمام [التَّعليقة: 5/ 219]، وبين تلقِّيه وجادةً، واجتماع هذين بلا ريبٍ محطُّ إشكال للعناية بالنَّصِّ، ومرتكض اضطراب في القراءة، فعلى جلالة الكتاب وما دوَّنه الإمام فيه وأودعه من نفائس لسان العرب، وكلام أهل العربيَّة، ومعالم قولهم وبيانهم، وقواعد كلامهم، وسَنَنهم في منثور كلامهم ومنظومه لم يخلُ من شوائب كدَّرت صفاءه؛ فالجُلَّى أنَّه لم يقرأه أحدٌ الكتاب قراءة تلقٍ على مصنِّفه، ولا سَلِم من عوارض اعترضت طريقه، بل أشدُّها اعتباط صاحب الكتاب في أَشُدِّه، حتَّى كاد يذهب الكتاب مع صاحبه ويمصح، لولا لُقفة أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش له، فهو الطَّريق إليه. فرحم الله الجميع.
متَّع الله المبارك اللغويَّ الألمعيَّ المفيد ذا المفاتح النَّافعة، والآراء الرَّشيدة أبا عبد الله د. فهيد بن عبد الله القحطانيَّ بالصَّحة والعافية، وأمتعنا الله وذويه وطلابه بمهجته وعلمه، ويسَّر له كلَّ عسير، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً لقاء ما يبذل ويقدِّم في سبيل العلم وروَّاده، والعربيَّة وطلابها. والحمد لله ربِّ العالمين.
ودمتم في رعاية الله وحفظه وكلاءته معاشر القرَّاء.
** **
د. فهيد بن فهد الرباح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com