الثقافية - أحمد الجروان:
منذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيَّب الله ثراه - تشهد الثقافة تطوراً متسارعاً، وتغيراً لافتاً، إذ وضع - رحمه الله - اللبنة الأولى لهذا الإرث التاريخي، وعهده إلى أبنائه من بعده، حتى عرف عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - أنه الملك المحب للكتاب، والقارئ النهم، والمتابع لمجريات الأحداث في الصحف، وأصّل ذلك في أبنائه. واعتنى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - بموروث الجد وعلم الأب، فثبت للثقافة جذوراً وأرسى لها قواعد، وعرف بريادته للثقافة، فنالت منه الاهتمام المتجلي في «رؤية المملكة 2030» التي وضع أسسها الأمير الشاب محمد بن سلمان، وشدد على أهميتها المحورية في التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، وتحسين جودة الحياة.
عبد العزيز الركيزة الثقافية
يذكر المؤرِّخون والمثقفون في حديثهم عن موحد الملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز آل سعود مأثره في حب المعرفة ومجالس النقاش العلمي ومدارسة الكتاب والسنة وطباعة الكتب على نفقته، فارتكزت الثقافة في عهده على هذه الركائز، وتناول الأديب والمؤرخ الراحل عبد الله بن حمد الحقيل في مقاله «جوانب ثقافية وحضارية في حياة الملك عبد العزيز» كيف كان الملك عبدالعزيز داعماً للكتاب وناشراً للعلم وأنه يقضي وقتاً من يومه في مجالسة العلماء والشعراء ويستأنس بحديثهم، ويقول المؤرخ الراحل الحقيل: (استعان الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه - بالكفاءات العربية من ذوي الثقافة والمعرفة وكان يحسن اصطفاء الرجال ويجيد فن اختيارهم وهذا من ملامح عبقريته وتنوعت مصادر الأدب والفكر والثقافة والاهتمام بإحياء وطبع كتب التراث والأدب والفكر الإسلامي وتحقيق المخطوطات وتخصيص مكافآت شهرية للعلماء والأدباء والشعراء وإنشاء المكتبات العامة، ولقد وصف (فيلبي) الملك عبد العزيز بأنه حاكم مثقف، ولقد قابل عدداً كبيراً من المفكرين والرحالة والمستشرقين فكان إعجابهم به كبيراً ووصفوه بأنه صاحب عبقرية وذكاء متميز، ولقد بهرت سيرته وإنجازاته وتاريخه مواهب الشعراء وتباهي الأدباء والشعراء والمؤرخون بتلك لسيرة العطرة والمثالية المتألقة والاهتمام والعناية بالعلم والمعرفة والأدب والتعليم والصحافة والمكتبات وطبع كتب التراث وجمع المخطوطات وتحقيقها ونشرها، مما كان له أثره وفاعليته في نشاط الحركة الثقافية في البلاد).
المثقف قارئ التاريخ ومتابع الصحف
يروي الأدباء والصحفيون قصصاً حول ثقافة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله- ومتابعته الحثيثة لكل ما يُنشر في الصحافة بدقة متناهية، وفي أحد المواقف الدالة على اهتمامه بما ينشر في وطنه - أيَّده الله- ويتحدث الزميل الصحافي رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة»، رئيس مجلس إدارة هيئة الصحفيين السعوديين خالد المالك عن موقفه مع خادم الحرمين الشريفين بقوله: (أستطيع القول إن الملك سلمان كان هو القارئ الأهم لصحيفة «الجزيرة»، فالمعروف عن خادم الحرمين الشريفين متابعته الدقيقة لكل ما ينشر في الصحف، وإبداء الملاحظات دون أن يؤذي أحدًا. ومن ضمن هذه الملاحظات أنه سألني ذات يوم عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض: «هل قرأت صحيفة الجزيرة اليوم قبل طباعتها؟».. وكان جوابي بـ»نعم». «وهل قرأت الصفحة الأولى تحديدًا؟» يسألني. وكان الجواب بـ»نعم» أيضًا. ثم طلب مني أن أعيد قراءتها، وأتصل به. وقد فعلت، لكني لم أجد فيها ما يلفت النظر؛ فأكدت له في اتصالي أني لم أجد ما أفسر به الهدف من تساؤلاته. فقال لي: «وهل قرأت بقية خبر تم نشره بالصفحة الأولى؟». فكان جوابي: «لقد غادرت مكتبي في منتصف الليل قبل وصول صفحة التتمات؛ فلم أطلع عليها». فطلب مني أن أقرأ بقية خبر الصفحة الأولى في صفحة التتمات، ثم أتصل به. قرأت تتمة الخبر، وإذا به معلومات كان ينبغي استبعادها؛ فشكرت الملك المثقف على متابعته قارئًا وناقدًا لصحيفة «الجزيرة»، ومن يومها أخذت قراراً بإلغاء صفحة التتمات، وأصبحت إلى اليوم تصدر من دون أن يكون هناك تتمة لخبر أو أيّ موضوع في الصحيفة.
وعناية خادم الحرمين الشريفين - أيَّده الله - بالتاريخ والثقافة والاطلاع الدائم على أهم الكتب العربية والإسلامية والتراثية والتاريخية جعلته يمتلك مكتبة من أكبر المكتبات الخاصة في المملكة العربية السعودية، إذ تضم ما يربو على 60 ألف مجلد في حدود 18 ألف عنوان، وهي مكتبة تتضمن جانباً كبيراً من الكتب التي ألفت عن التاريخ السعودي.
ويرأس خادم الحرمين الشريفين مجلس إدارة مكتبة الملك فهد الوطنية، بالإضافة إلى دارة الملك عبدالعزيز، وهو عارف بالتاريخ السعودي ومهتم به بوصفه يشكل جانباً من الهوية الأصيلة للمملكة، بالإضافة إلى الهوية الدينية بوصف المملكة تحتضن البقاع الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهي قبلة المسلمين وهو ينظر - رعاه الله - إلى التاريخ بوصفه عنصراً مؤثراً في الحاضر، حيث يمنح قارئه حكمة الماضي واستشراف المستقبل.
مهندس الرؤية وبناء المستقبل
يكشف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع - حفظه الله- جانباً من حياة والده وكيف يتعامل مع أبنائه في زرع الفكر الثقافي وتأصيل حب القراءة، ففي لقائه الذي بثته قناة «CBS» ضمن برنامج «60 دقيقة»، أجاب ولي العهد عن تساؤل طرحته المذيعة: «ماذا تعلمت من والدك؟» فكان رده: (الكثير والكثير من الأشياء، إنه يحب التاريخ كثيراً وهو قارئ نهم للتاريخ. وفي كل أسبوع كان يعطي لكل واحد منا كتاباً، وفي نهاية الأسبوع يسألنا عن محتوى الكتاب. والملك دائماً يقول: «إذا قرأتم تاريخ ألف عام سيكون لديكم خبرة ألف عام»).
وأولى ولي العهد مهندس «رؤية المملكة 2030» جانباً ثرياً للثقافة، كونها إحدى مقوّمات جودة الحياة. ولتحقيق بنود «رؤية ولي العهد» أُطلقت وزارة الثقافة «رؤية وتوجهات وزارة الثقافة» التي تمثل إطار العمل الذي تنهجه في مهمتها لتطوير القطاع الثقافي بالمملكة. وحددت ثلاثة أهداف رئيسية هي: الثقافة كنمط حياة. والثقافة من أجل النمو الاقتصادي. والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية وجعلتها تتماشى بدقة مع المحاور الإستراتيجية لرؤية المملكة 2030، والمتمثلة في بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح.
في هذا الإطار، تسعى وزارة الثقافة إلى تطوير الإمكانيات وتعزيز الفرص والقدرات في القطاع الثقافي، من خلال بث كافة جوانب التراث الثقافي السعودي في أوصال الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين، مما يجعلهم ينعمون بحياة عامرة وصحية. وحددت وزارة الثقافة 16 قطاعاً فرعياً ذا أولوية للتركيز عليها في عملها، ومن أجل تعزيز قدرتها على أن تقود وبفعالية المبادرات الرائدة في مختلف مجالات القطاع الثقافي. وتنص رؤية وتوجهات الوزارة على استحداث 11 هيئة لتنمية القطاعات الثقافية. وكذلك حددت وزارة الثقافة، ضمن رؤيتها وتوجهاتها، 16 قطاعاً فرعياً ستتركز عليها جهودها وأنشطتها، واشتملت الحزمة الأولى من المبادرات الثقافية على 27 مبادرة غطت الجوانب الثقافية في حياة كل فرد في المجتمع سواء من المثقفين أو روادها.
ولم تقتصر عناية ولي العهد بدعم المؤسسات الثقافية الحكومية فحسب، بل حرص - أيَّده الله - على حوار المثقفين ومن ذلك لقاء سموه بمجوعة من المثقفين السعوديين. وجرى خلال اللقاء النقاش حول مستقبل الثقافة السعودية على ضوء رؤية المملكة 2030، مثمناً الجهد الذي يبذله المثقفون السعوديون باختلاف مشاربهم لخدمة وطنهم ومجتمعهم، وشدد ولي العهد على الأهمية المحورية للثقافة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وفي تحسين جودة الحياة، ودورها في حفظ الهوية والتاريخ وفي التعبير عن التنوع الحضاري الغني الذي تحظى به المملكة، وإسهاماتها في مد جسور التواصل المعرفي والإنساني مع الحضارات والدول الأخرى.
وحرص سموه الكريم أيضاً على إثراء فتيات وشباب الوطن بالجوانب الثقافية والإبداعية والمجالات الأدبية والاجتماعية والتكنولوجية وغيرها، فأطلق - حفظه الله - مؤسسة الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الخيرية (مسك الخيرية)، وهي مؤسسة خيرية غير ربحية، تهدف لرعاية وتشجيع التعلم، وتنمية مهارات القيادة لدى الشباب من أجل مستقبل أفضل للمملكة.
وحول حرص سمو ولي العهد على العمارة ومعالم التراث العمراني الحضاري، يولي مشروع محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية أهمية كبرى، لما للمساجد التاريخية من مكانة عظيمة في الدين الإسلامي، إضافة إلى أنها أحد أهم معالم التراث العمراني الحضاري، ولأصالة طابعها المعماري، وما تمثله المساجد المشمولة بالبرنامج من عمق تاريخي وثقافي واجتماعي. ويُسهم المشروع في إبراز البُعد الحضاري للمملكة، الذي تركز عليه رؤية السعودية 2030، عبر المحافظة على الخصائص العمرانية الأصيلة والاستفادة منها في تطوير تصميم المساجد الحديثة.
ولم تقف أيادي سموه البيضاء في دعم الثقافة عند هذا الحد إنما شمل دعمه كل ما من شأنه تحقيق ازدهار الوطن والمواطن ونقل ثقافة المملكة إلى العالم، لتكن نموذجاً يحتذا به ومثالاً حياً على التطور الذي يشمل الإنسانية جمعاء.
** **
@a_jarwan