حين نستذكر فضل الله ونعمته على هذه البلاد «المملكة العربية السعودية» وعلى أهلها، واجتماع كلمتهم، وتوحيد أجزاء وطنهم، وتوحيد أطرافه، ولم شمله، وتحقيق أمنه الوارف، واستقراره المكين، ورخائه العميم، في يومنا الوطني (92)؛ فإننا نشكر الله الكريم؛ صاحب المِنَن العظيمة، والنِّعَم المقيمة، التي لا نعدها ولا نحصيها، الذي قيض لهذه البلاد وأهلها واحدا منها أخذ على عاتقه، في وقت بائس عسير، انفرط فيه عقد الدولة، وتفرق فيه جمع أهلها، وغاب فيه أمنهم وسلامهم واطمئنانهم واستقرار نفوسهم، وهدوء أحوالهم، واشتدت فيه حاجتهم إلى من يعيد لهم ما غاب عنهم؛ من دولة عادلة، ومجد مؤثل، وسلطان مهيب، وقد كان فضل الله عليهم عظيما، حين قَضَى وقدَّرَ أن يستشعرَ، الفتى عبدُالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيَّب الله ثراه، وجعل الفردوس الأعلى مثواه، أن يستشعر الرغبة الملحة عليه، في أن يتحمل مسؤولية عظيمة، تملكت عليه أقطار نفسه، وهو يرى، تلك الحالة التي آلت إليها أحوال العباد والبلاد؛ من شقاء وبأساء، ومن جهد وبلاء؛ منذ أيامه المبكرة، وفي أوائل شبابه، فآلى على نفسه، ألا يهدأ له بال، وألا تنعم له حال، حتى يُعيد للدار صلاح حالها، ولأهلها هدوء بالهم، وللقبائل اجتماع كلمتهم، وللجماعات استقرار أمرهم، وللجميع استباب أمنهم وتحقُّق أمانهم.
فانطلق القائد (عبدالعزيز) مع رجاله المخلصين، الذين شاركوا قائدهم همومه وغاياته، واستشعروا معه نبل أهدافه، وسمو تطلعاته، وقدموا أرواحهم على راحاتهم، في سعيهم الدؤوب، وكفاحهم المتواصل، بقيادة المؤسس العظيم، يحملون أهدافهم السامية، وتحملهم لتحقيقها عزائم قوية، ونفوس كبيرة، غير عابئين بالعواقب والعقبات، مستسهلين المخاطر والصعوبات، صابرين على الأهوال والمكابدات، متخطين الدسائس والمكايدات، التي تمت مواجهتها بتوفيق ونجاح.
كان (عبدالعزيز) الفتى اليافع، وهو في مقتبل العمر، يرى الحال التي آل إليها أمر العباد والبلاد، فتضطرم في نفسه مشاعر جياشة، تستثيرها همة عالية، وتطلعات حالمة، وتغذيها تجارب سالفة، وأيام مجيدة خالية، وتدفعه لتغييرها، شجاعة وعزم، وسدادة رأي وحزم، فانطلق في مضاء وثقة، وفي يقين وإيمان، في جهود وجهاد، معتمدا على توفيق الله وهداه، مسترشدا بعظاته ووصاياه، غير مبال بما يراه في طريقه اللاحب من أشراك وأشواك، ومن أعداء ولأواء، ومن مصاعب ومتاعب!
ومضى في معاركه وغزواته، يجوب أرجاء بلاده موحدا، يهدم أسوار الفُرْقَة، ويبني قلاع الوحدة الوطنية، ويشيِّد صروحَ العزة والكرامة، في ظل الإخوة الإيمانية، وتحت ظلال الراية الوحدانية؛ راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، جلَّ الله في عُلاه، وصلى الله على رسوله وزكَّاه!
والمطالع لذلك التاريخ بعين العدل والإنصاف، وبنظرة التجرد والموضوعية، وبخاصة ونحن نستعيد ذكرى يوم الوطن العزيز؛ الثاني والتسعين، وذكرى توحيد المؤسس العظيم لكيان الوطن الغالي تحت اسم «المملكة العربية السعودية، يجد نفسه أمام صفحات ناصعة، ومواقف مجيدة، وسجلات حافلة بالعطاء والتميّز، في جوانب مختلفة، وفي أوجه متعددة، اتصف بها المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ذاتيا في شخصيته الفردية، وما زالت في كثير منها تحتاج منا - نحن أبناء هذا الوطن بخاصة - وقفات ووقفات؛ للتأمل فيها، والنظر في دلالتها، وعلى وجه أخص فيما يتعلق بموقع الوطن والمواطن في نفس الملك عبدالعزيز، وأهمية هذا الموقع في مشروع الملك عبدالعزيز التوحيدي الفريد لهذا الوطن إنسانا ومكانا.
إنه من الأهمية بمكان - ونحن نستعيد ذكرى يوم الوطن، نتذكر نعمة الله التي من الله بها علينا؛ فيما نعيشه اليوم من أمن وأمان ورخاء، وتقدم واستقرار، وتطور واستمرار؛ قد أطعمنا الله فيه من جوع وآمننا فيه من خوف - أن نتذكر من كان وراء هذا الإنجاز العظيم، ومن تحمَّل أعباءه في صمود وجلادة وصبر وتضحية، وهو الملك عبدالعزيز، الذي بذل نفسه وراحته، وقدم حياته ووقته ليحقق لوطنه ومواطنيه ما هم فيه اليوم من رخاء وهناء!
إننا لو رحنا، هنا، نستذكر الأعمال الجليلة، والصفات الجميلة، والسجايا الحميدة للملك المؤسس لطال بنا المقال، ولما اتسع لنا المجال؛ ولكننا نكتفي بالإشارة، في هذا السياق، في ذكرى يومنا الوطني، إلى ملمحين مهمين، وجانبين عميقين في صفات المؤسس وفي شخصيته؛ من حيث علاقته الحميمة بالمواطن والوطن، ومن حيث كون هذه الصلة منبعثة من النفس على الطبيعة والسجية؛ وهما أبوته للشعب والدولة؛ وهما ملمحان شهد بهما الأبعدون قبل الأقربين، وسجله من خبره وعايشه من قرب، وأدركهما من سمع عنه من بعد!
الملمح الأول: هو شعور الأبوة في نفس الملك عبدالعزيز تُجاه مواطنيه، وارتباطه بشعبه، وإحساسه بمسؤوليته تُجاههم؛ فمن كلام الملك عبدالعزيز عن علاقته الشعورية تُجاه شعبه، وشعور شعبه تُجاهه قوله: «يعلم الله أن كل جارحة من جوارح الشعب تؤلمني، وكل شعرة منه يمسها أذى تؤذيني. وكذلك الشعب؛ فإنه يتألم إذا أصابني أيُّ شيء؛ ولكن المصلحة العامة تضطرني أن أقضي على من لا يُصغي إلى النُّصح والإرشاد، وأن أتجرع ألم ذلك حفظا لسلامة المجموع».
وقد جاء في كتاب من الملك عبدالعزيز إلى والي البصرة العثماني (سليمان شفيق كمال باشا): «.. وقد فاتكم أن الراعي مسؤول عن رعيته، وأن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وفاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم، ولا يبالون إذا خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم...».
ومن كلامه المأثور: «إني على استعداد لأن أكون كجندي بسيط، أجاهد في سبيل العرب، وتوحيد كلمة العرب، وتأسيس الوحدة بين العرب» ومن كلامه أيضا: «العرب اليوم، هم كالطفل الصغير يحتاجون إلى عناية شديدة؛ فمن الواجب على الذي يتولى أمرهم أن ينصحهم ويرشدهم إلى طريق الصواب».
اللهم فاشهد:
«كتب حاج سنة 1372هـ: (بينما كنت داخلا من باب المجيدي؛ لفت نظري لوحة إعلانات معلقة على جدار المسجد، وفيها «الإعلان» الآتي نصه: «من عبدالعزيز بن عبد الرحمن بن سعود، إلى شعب الجزيرة العربية: (على كل فرد من رعيتنا يُحسُّ أن ظُلْمَا وقع عليه، أن يتقدم إلينا بالشكوى. وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها، بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا. وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي. وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه؛ مهما تكن قيمتها، أو يحاول التأثير عليه، ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد. لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يُحمّلني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم، أو استخلاص حق مهضوم. ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد!».
ومن كلامه: «أنا قوي بالله تعالى، ثم بشعبي. وشعبي كلهم؛ كتاب الله في رقابهم، وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله. ولست أدَّعي أنهم أقوياء بعَدَدِهم أو عُدَدِهم؛ ولكنهم أقوياء - إن شاء الله - بإيمانهم».
وقال أيضا: «إذا كان المسلمون والعرب في منعة من التعاضد والتكاتف، فليست هناك قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم».
وقد كتب (خير الدين الزركلي) في كتابه؛ الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز، ص 223-224، تحت عنوان: (أب؛ قبل الملك وبعده) فقال: «الملك عبدالعزيز لا يُلقي القول جُزافا. وقد سُمع في مناسبات متعددة يذكر أنه لا يرى نفسه أكثر من «أب» لأسرة كبيرة - هي شعبه - وأنه مسؤول عن هذه الأسرة أمام الله.
«وإذا عرفنا من سيرته في الأيام العصيبة، على الخصوص، كالحربين العالميتين، وأيام انحباس الغيث عن رعاياه، أنه كان يُبادر إلى ما في خزانته الخاصة وخزائن الدولة من مال، فيأمر بالإنفاق منه على إطعام القبائل المجدبة أرضُها، وعلى الأفران تُموَّن بالدقيق لتوزيع العيش (الخبز) على أهل المدن مجانا، لم نشك أنه كان يعني ما يقول من أنه «أب» لأسرة..
«وهو يعبر عما في قرارة نفسه، حين يكرر في خُطَبِه القول المألوف» المُلك لله وحده» فيقف عند كل كلمة منها، متجردا أمام ربه؛ من صفة «الملك» وقد أعقبها في إحدى خُطبه بقوله: «وما نحن إلا خدم لرعايانا».
«كان عبدالعزيز يُصغي إلى الكبير والصغير من شعبه، يستمع إلى أحاديثهم، ويشارك المسرور منهم في سروره، ويتوجع لألم المحزون، فينسون أنهم بين يدي ملك «يتمتع بحقوق السيادة» ولا يشعرون إلا بأنهم بين يدي «أب» طالما قال - وبرهن على القول بالفعل -: (الكبير منكم أخ لي والصغير من أبنائي).
«والذين كانوا يخاطبون الملك بلقبه الرسمي؛ إنما هم الأقلون عدداً في رعيته؛ أما السواد الأعظم فكان يدعوه بأحب النعوت إليه: (يا طويل العمر! أو: يا أبا تركي!) وبعضهم ينادونه باسمه مجرداً من النعوت والألقاب: يا عبدالعزيز.. ويُجيبهم مُبتسماً، أو مُصغيا، ولا يراهم قد خرجوا عن حدود الأدب معه؛ ذلك لأنه في طويته لم يكن يعبأ بالألقاب؛ فضلا عن كراهيته للملق والتكلف، واصطناع الأدب..
«فإذا قلنا إن الملك عبدالعزيز كان «ديموقراطيا» في جبلِّته التي فطر عليها؛ فكل خُلُق فيه، وكل خبر عنه، يؤيد هذا القول. لقد عاش وهو يرعى أفراد شعبه؛ من خاصة وعامة، ورعاية الأب أبناءه، ويراهم أسرته التي هو كبيرها وعليه أن يعولها، قبل أن تبايعه بالملك، وبعد البيعة».
«أخبرني أحد ضباط القصر الملكي؛ قال: «رأيت الملك عبدالعزيز، في الهزيع الأخير من الليل، عند صلاة الفجر، يتمسك بأستار الكعبة، ويدعو الله قائلاً: (اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين، فأبقه لي ولأولادي، وإن كان فيه شر لي وللمسلمين، فانزعه مني ومن أولادي)».
الملمح الثاني: هو علاقة الملك بالدولة من حيث إنه أب لهذه الدولة، وأنه هو راعيها؛ منذ البدء إلى أن تمَّ تمامها؛ فهو مَن جالد وجاهد ليعيد تأسيسها مرة أخرى، بعد أن انفرط عقدها وكادت ألا تعود وأن تصبح أثرا بعد عين، لولا أن قيضه الله لينهض، بإيمان ويقين، وبعزم قوي مكين، غير مبال بالمخاطر والأهوال، ليحقق ذلك الهدف السامي؛ فاستعاد عاصمتها الرياض ثم واصل كفاحه حتى بسط سلطانه على نجد وملحقاته، وواصل مسيرته إلى أن صار ملك الحجاز، ضمن ولاياته، ثم استكمل دولته الآمنة المطمئنة المستقرة، المستقلة، وسماها:» المملكة العربية السعودية».
فقد سعى طويلا حتى وحدها، وجعلها بلدا مستقلا، وقد عبر عن ذلك المعنى الأمريكي؛ (جون جنتر) في كتابه (في داخل آسيا) حين قال عنه: «إن الإقليم الذي تنطبق عليه الصفة القومية الاستقلالية أعظم انطباق هو (العربية السعودية) التي يحكمها (ابن سعود) أعظم عربي في الشرق الأوسط».
وقال عنه (إيفننج وورلد): «(ابن سعود) رجل ذو خلق قوي وإرادة نافذة، استطاع بهما أن يؤسس الوحدة والنظام في مملكته الواسعة، التي لم يسبق لها أن عرفت السلام قط إلا في أيام حُكْمه. وهو أعظم شخصية في العالم العربي اليوم».
رحم الله الملك عبد العزير، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، على ما قام به من عمل تاريخي صالح كبير، وما قدمه من جهد وجهاد، وما حققه لشعبه وبلاده من أمن وأمان، ورخاء واطمئنان، وحفظ الله مملكته السعيدة، المملكة العربية السعودية وأهلها، بقيادة خادم الحرمين الشريفين؛ الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، يحفظهم الله ويرعاهم ويؤيدهم بتوفيقه ونصره.
** **
د. محمد بن حسن الزير آل حمد - أستاذ اللغة العربية وآدابها