د. تنيضب الفايدي
عمل الكاتب في التربية والتعليم لأكثر من أربعين عاماً، وذخرت حياته العلمية والعملية بمئات الذكريات، وقد كتب كثيراً من تلك الذكريات، وقرّر أن لايعود إليها، ولكن إذا ذكر الطالب أو المعلم في أيّ مجلس تسابقت ذكريات جديدة وينطبق عليّ ما ينطبق على حبيب ليلى الذي عاهد قلبه ألا يذكرها أبداً:
ألستَ وعدتني يا قلبُ أني
إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ؟
فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى
فما لكَ كلَّما ذُكرت تذوبُ؟
ولأن للتربية والتعليم ذكريات لاتنتهي؛ حيث من عمل بها يكتنز كثيراً من المواقف والقصص والذكريات، سواء من الطلاب أو من المعلمين، أو من إدارة المدرسة، أو من المجتمع الذي تخدمه المدرسة، وكانت إدارة المدارس في عشر السبعين إلى منتصف عشر الثمانين (1370-1385هـ) تعتمد على ما يسمّى حالياً (تسيير الأمور) بمعنى أن المسؤول عن المدرسة ليست لديه خبرة في الإدارة المدرسية، ولم يدرّب عليها آنذاك، بل وليست لديه إلا الشهادة الابتدائية أو (كفاءة المعلمين) أي: ثلاث سنوات بعد الابتدائي، أي: أن وزارة المعارف وقبلها مديرية المعارف كانت تطلب في بداية كلّ عام مجموعة من المعلمين، ومن شروطها توفر الشهادة الابتدائية، وذلك قبل عام 1380هـ، ومع ذلك فإن لمدير المدرسة في القرى منزلة كبيرة لدى الأهالي وهيبة لدى الطلاب، وقد يكون خطيباً للجمعة في القرية أو ينوب عن الإمام في حالة غيابه، وكلمة مدير المدرسة مسموعة من الجميع، ويتم تنفيذها، ويجتمع الكاتب عادة مع بعض مديري المدارس المتقاعدين (حالياً)، ومنهم مدير مدرسة صفينة (1381هـ-1384هـ)، ونظراً لأن للكاتب ذكريات مع صفينة أو بلدة صفينة التاريخية وقد زرتها عدة مرات، ربما كانت لها أول زيارة 1408هـ لتعبئة الاستمارة لفتح مدرسة ثانوية، وتمت الموافقة عليها، وأسميتها ثانوية صفينة، وذكرت تاريخ هذه البلدة وبعض شعر الخنساء التي ذكرت فيها صفينة صراحة، ولكن رفض الاسم، وقالوا (لاتسموا بأسماء القرى)، وعلى ما أعتقد أطلقت عليها اسم ثانوية المهلب بن أبي صفرة -إن لم تخنِّ الذاكرة-،وفي سهرة مع المجموعة من الزملاء وكان أحدهم هو مدير المدرسة الابتدائية بها الذي ذكرته سابقاً، أي: أن تاريخ إدارته لتلك المدرسة مرّ عليها أكثر من (60) عاماً، وكانت لذلك المدير مواقف وذكريات مع تلك المدرسة، وكان يكلف أحياناً بخطبة الجمعة في حالة غياب إمام المسجد، وما أكثر غيابه كما يقول، ولن تكن هناك إجازة إلا يوم الجمعة، وكانت بينه وبين أهله مسافات طويلة وصعبة لا يستطيع خلال الفصل الدراسي زيارة أهله؛ لأنهم في وادي الصفراء (خيف الخزامي)، وما أبعد صفينة عن خيف الخزامي آنذاك، و ما أصعب الطرق الموصلة للمدينة المنورة، ناهيك عن وادي الصفراء، ونظراً لانقطاع التواصل بين المدارس في القرى النائية فإن مجموعة المعلمين من كلّ قرية يجتمعون ليلة الجمعة في بيت أحد المجموعات الأقرب، وفي إحدى ليالي الجمعة جاءت مجموعةلى بيت مجموعة معلمي مدرسة صفينة بما فيهم مدير المدرسة، ويسهرون سوياً، وكانت منازل صفينة متقاربة جداً حول السوق الذي يمثل شارعاً واحداً فقط، والدكانين والمحلات تنحصر في ذلك الشارع، وبعد العشاء سمع جميع سكان صفينة صوت العود يصدح من بيت مدير المدرسة، وبدأ الغناء وسماع بعض الكلمات الشاذة على الأسماع آنذاك مثل (يا حبيبي) وما شابهها... ثم بدأت أغنية تخص نساء وبنات صفينة، قالها للكاتب مدير المدرسة قبل فترة ولا أتذكر منها إلا..
أنا حبيبي صفيني
راعي القوام الجميل
شفته بعيني يتمشى
بين المياه والنخيل
عليه مقطع سماوي
والخصر ضامر جميل
وقد اجتمع بعض رجال صفينة وأرادوا إسكات هذا الصوت، ولكن رأى بعضهم أن تتم زيارة بيت المدير صباحاً، وفعلاً تم ذلك، وقالوا للمدير (نحن جبناكم لتعلّموا أبناءنا لا لتستميلوا نساءنا)، وأرادوا رفع شكوى عاجلة لكن لم يجدوا وسيلة لرفع تلك الشكوى إلا إذا ذهبوا إلى المهد لرفع برقية وهي بعيدة، واعتذر لهم مدير المدرسة بأنه لا علاقة له لا بالكلمات ولا بالعود، وإنما أتى زملاؤه بالعود من قرية أخرى، ومنعهم في البداية ولكن لم يمتنعوا، وقدّم الاعتذار الشديد لرجال صفينة ووعد بأن ذلك لن يتكرر.