رغم مرور 71 عاماً على وفاة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، لكن ذاكرة الوطن لا زالت تحتفظ بتفاصيل شخصية هذا القائد الملهم الذي ولد في مدينة الرياض عام 1293هـ الموافق 1876م وترعرع فيها، ونهل من علمائها بعد أن عهد به والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود إلى القاضي عبدالله الخرجي لتعليمه القرآن الكريم والقراءة والكتابة وهو في سن السابعة من عمره، وفي سن العاشرة تلقى تحصيله في الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، وبالتوازي مع ذلك كان الملك عبدالعزيز يتعلم مهارات الفروسية وركوب الخيل.
وتأثرت شخصية الملك عبدالعزيز كثيراً بشخصيّة والده الإمام عبدالرحمن الفيصل حيث كان أباً، ومُعلماً، وأخاً، وصديقاً لابنه، فضلاً عن شخصية والدته الأميرة سارة السديري التي كانت من أكمل النساء عقلاً وتدبيراً، وكان محباً لإخوته، لكن علاقته بالأميرة نورة احتلت مكانة كبيرة في نفسه حتى أنه ينتخي بها بالقول: «أنا أخو نورة»، ويحرص على زيارتها يومياً في منزلها.
وللملك عبدالعزيز شخصية قوية آسرة، ومهابة تأثر بها كل من قابله، وفي المقابل كانت له صورة باسمة مشرقة بأسارير متهللة بما عُرف عنه من لين الجانب والتواضع والمرح، وعدم تكلّفه في الحديث مع أبناء شعبه ورعيته، فضلاً عن كرمه وسخائه مع الجميع، فلم يكن ملكاً فقط، بل كان رب أسرة ومحباً للجميع، ورجلاً قدوة في أفعاله وسلوكياته.
وبهرت شخصية الملك عبدالعزيز الكثير من المفكرين والمؤرخين في العالم، ومنهم المؤرخ الصيني البروفيسور يانغ يان هونغ الذي قال عنه: «لقد كان الملك عبدالعزيز أحد العباقرة الذين قدموا لأممهم وأوطانهم خدمات جليلة بجهودهم الجبارة التي لا تعرف الكلل أو الملل، وأثروا في تطور المجتمعات البشرية وتقدمها نحو الغاية المنشودة، وسجلوا مآثر عظيمة في السجل التاريخي المفعم بالأمجاد الخالدة».
ووصف الدكتور فون دايزل النمساوي الذي زار المملكة عام 1926م الملك عبدالعزيز بالنابغة، مستشهداً بالقول: إذا عرفتم أن ابن سعود نجح في تأليف إمبراطورية تفوق مساحتها مجموع مساحات ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، معاً بعد أن كان زعيماً لا يقود في بادئ الأمر سوى عدد من الرجال تمكن بمساعدتهم من استرداد الرياض عاصمة أجداده، لم يداخلكم الشك في أن هذا الرجل الذي يعمل هذا يحق له أن يسمى «نابغة».
وعرف عن الملك عبدالعزيز احترامه الكبير للعلماء طيلة فترة حياته فكان يقدمهم في مجلسه، ويستمع إليهم، ومبعث ذلك إيمان الملك عبدالعزيز التام بقيمة العلم والعلماء وأثرهم في الحياة.
وعدّ المؤرخون خروج الملك عبدالعزيز، مع والده الإمام عبدالرحمن وبعض أفراد أسرته من الرياض عام 1308هـ الموافق 1891م، الحدث الأصعب في حياته، إذ غادرها وهو في سن الـ15 عاماً، وكانت محطتهم الأولى بعد الرياض واحة «يبرين» في الأحساء، فالبحرين إلى أن وصلوا فيما بعد إلى الكويت واستقروا بها عدة سنوات ظل فيها الملك عبدالعزيز معلق القلب بالرياض التي ولد وترعرع فيها، وكبرت فيها تطلعاته وآماله. ثم توجه لها في الخامس من شهر رمضان عام 1319هـ في رحلة بطولية قاد مسيرتها بصحبة 40 رجلاً ليتمكنوا من اختراق جوف الصحراء التي تلتهب رمالها تحت أشعة الشمس الحارة، وصاموا رمضان في واحة «يبرين» في الأحساء، وعيدوا في موقع يقال له «أبو جفان».
وأثناء السير في الطريق اتخذ الملك عبدالعزيز آل سعود من واحة «يبرين» مقراً له لتنفيذ خطته في إعادة الرياض، وتقع هذه الواحة بمحاذاة رمال الربع الخالي من الشمال على بعد 160 ميلاً جنوب الأحساء، و175 ميلاً عن الرياض شرقاً، وأثناء السير مرّ الملك عبدالعزيز ورجاله بـ «حرض» وهي إحدى قرى الأحساء.
وفي اليوم الرابع من شهر شوال من عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م، وصل الملك عبدالعزيز ورجاله إلى «ضلع الشقيب» الذي يبعد عن مدينة الرياض نحو ساعة ونصف مشياً على الأقدام، ومن الضلع تقدموا إلى الرياض التي دخلها الملك عبدالعزيز بذكاء القائد المحنك وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح بعد عملية بطولية حامية الوطيس لم تدم طويلاً.
وتمكّن الملك عبدالعزيز من طيِّ زمن العهد الغابر في الرياض، وأعلن بداية العهد الزاهر في نجد، بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها عام 1320هـ أميراً على نجد وإماماً لأهلها، وذلك عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير بالرياض، فدبّ الاستقرار السياسي في مدينة الرياض بعد سنين من الاضطراب، وكانت وحدة الحكم من أهم العوامل التي مهدت دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري.
وتمكن الملك عبدالعزيز آل سعود عبر رحلة طويلة أضناه فيها طول المشي والتفكير من لملمة شتات البلاد، وإعادة الأمن، والتصدي للفوضى التي كانت سائدة في الجزيرة العربية آنذاك.
واهتم الملك عبدالعزيز بتطوير البلاد، فأصدر مرسوماً ملكياً برقم 2716، وتاريخ 17 جمادى الأولى عام 1351هـ، يقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) إلى المملكة العربية السعودية، ابتداءً من يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق الأول من برج الميزان 23 سبتمبر 1932م.
ووجّه الملك عبدالعزيز عند بداية تنظيم شؤون الدولة بالاهتمام بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، وخدمة الحجاج والمعتمرين، فضلاً عن البدء في فتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، وبناء القرى، وإصلاح التربة، وتوطين البادية، والتنقيب عن مياه الري من أجل دعم الزراعة، بيد أن هذه الجهود كانت تصطدم بتوفر المال لتنفيذها وهو ما أشغل تفكير الملك عبدالعزيز إلى أن بدأ البحث عن الثروات المعدنية تحت باطن الأرض.
وتماشياً مع الرغبة في النهوض بالبلاد، بدأت في خريف عام 1933م عمليات التنقيب عن النفط في بعض أراضي المملكة، لكن مضت أربعة أعوام عجاف لم تثمر أعمالها عن الوصول إلى نتيجة إيجابية مرضية لاكتشاف مكامن النفط، إلى أن قرّر الخبراء التنقيب حول بئر ماء في منطقة تسمى «عين جت» كان الملك عبدالعزيز قد توقّف عندها عام 1902م/ 1319هـ في طريقه من الكويت إلى الرياض، فكانت المفاجأة وجود النفط على عمق 5 آلاف قدم تحت الأرض.
وانتعشت الأرض الصحراوية بخروج الذهب الأسود الذي حوّل الصحراء القاحلة المؤنسة بهدير الرياح إلى مدينة ديناميكية ممتلئة بالعمال والمهندسين وخبراء النفط، وفي عام 1939م جرت أول عملية ضخ للنفط في احتفال شهده الملك عبدالعزيز ليستهل بعدها مشروعات الدولة التي خطط لها وسط تحديات عالمية واجهت المملكة ودول المنطقة بسبب الحرب العالمية الثانية.
وكان اهتمام الملك عبدالعزيز بالشأن الخارجي بنفس اهتمامه بالشأن الداخلي للبلاد، ويتعامل مع جميع دول العالم بدبلوماسية عالية المستوى آخذاً بعين الاعتبار حق المملكة في استقلالها واختيار طبيعة علاقاتها مع الدول دون الإخلال بمكانتها: الدينية، والحضارية، والثقافية، وهو ما جعله محبوباً من مختلف قادة دول العالم، ويصبح حديث الإعلام العربي والإقليمي والدولي في ذلك الوقت.
وسعى الملك عبدالعزيز إلى تسوية أوضاع البلاد، وتأمين الاعتراف بها مع الدول العربية المجاورة أولاً، ثم مع باقي الدول العربية والإسلامية، وصولاً إلى دول العالم، فعقد مع الدول العربية اتفاقيات ومعاهدات تهدف إلى تسوية الحدود مع هذه الدول من جهة، وخلق أجواء من السلم والأمن والصداقة معها من جهة أخرى علاوة على إقامة علاقة دبلوماسية تلبي مصالح البلاد مع دول العالم دون الإخلال بثوابتها.
من هنا وصف الأديب والمفكر المصري عباس العقاد شخصية الملك عبدالعزيز بالقول: «كان الملك عبدالعزيز عنيداً مع الأقوياء، متواضعاً مع الضعفاء، لكنه كان يسمع الرأي الآخر، فإذا اقتنع به رجع إليه، لأنه اتخذ من الحق والشريعة إماماً وحكماً».
وفي شهر محرم من عام 1373هـ ترجل الفارس الملك عبدالعزيز عن صهوة جواده بعد أن اشتد عليه المرض أثناء إقامته في الطائف، وفي فجر الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م فاضت روحه إلى بارئها رحمه الله وغفر له وأجزل له الثواب والأجر على ما حقق لهذا الوطن وأبنائه من أمن وارف، وخير عميم لا زلنا نعيشه حتى اليوم.