أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أريدُ أنْ أتجنب المصطلحات التي تعدَّدت معانيها حتى لا يحدث اللبس والإيهام في المعاني التي أريدها؛ فلن أتكلم عن المادة واللامادة؛ لأن في ذلك متاهة بين الماديين والمثاليين؛ وإنما أتكلم عن الموجود واللاموجود، والمفهوم واللامفهوم؛ والموجود الذي تصل إليه معرفتي: قد يكون حسياً عرفته بحسي، أو بممارسة الآخرين؛ وهذا يطلق عليه (مادي)؛ أي له كم، أو كيف بشتى المقادير والأشكال، ومعرفتي لهذا اللون معرفة (حسية عقلية).. وقد يكون الموجود الذي تصل إليه معرفتي، ولا أقول إنه مادي، أو غير مادي موجوداً لم أعرفه بحسي، ولم أرَ أنَّ الناس مارسوه؛ فمعرفتي به ليست معرفة (حسية عقلية)؛ بل معرفة (عقلية خالصة)؛ لأنني أعرف وجوده بلزوم عقلي، أو بإحساس لأثره.. ويؤيد صدق هذه المعرفة: أنَّ كثيراً من معارفي الحسية العقلية كان معرفة عقلية خالصة قبل أنْ أحس به؛ فلما أحسست به صار معرفة عقلية حسية، والذي يسقط المعرفة العقلية الخالصة من نصاب المعرفة البشرية: ينسى أنَّ كل تجربة حسية مسبوقة بمعرفة نظرية، ولم تكن المعرفة النظرية خاطئة في كل التجربات؛ فصدق وصحة بعض المعارف النظرية دليلٌ على صحة المعرفة العقلية الخالصة.. وهب أنَّ معرفة العقل الخالصة: لا تتأتى إلا من تجريدات وعمومات حسية؛ إلا أننا في هذا التجريد والتعميم: نصل إلى معرفة وجود ما لم نحسه بعد؛ فكلامنا عن الشيىء الذي نعرفه، وليس عن مادتنا في المعرفة.. ولست الآن بصدد إقامة البرهان على وجود معرفة حسية عقلية، ومعرفة عقلية خالصة؛ وإنَّما حديثي عن المعرفة الحسية العقلية فقط؛ فالمعرفة الحسية هي التي ألتقطها بحواسي الخمس الظاهرة، وسأستثني من البحث: ما أعرفه بحسي الباطن: الذي يدرك ألم الحزن ولذة الجماع.. والشيىء المحسوس الذي عرفته بحسي: لابد أنْ يكون له مقدر من المقادير الكمية، أو شكل من الأشكال الكيفية؛ وهو ما يسمونه بالمادة؛ وهي الكائنات الحية من الحيوان والنبات، وغير الحية: من الجوامد والسوائل والكهارب، والذبذبات والطاقة.. والماديون يسمون هذه الأشياء الطبيعية.. إن الطبيعة في أغلب أشكالها وفي جمع عناصرها: سابقة للوعي البشري؛ لأنَّ كل مولود منا يفتح وعيه على كائنات موجودة قبل أنْ يوجد هو ووعيه؛ فإذا تفتح وعيه على الكائنات: عكس له حسه البشري صورة الكائنات، ومن تجمع هذه الانعكاسات، ومشاهدة العلاقات بينها يأخذ العقل أحكامه وقوانينه وتجريداتهوعموماته والبرهان على ذلك: أنَّ الكائنات قبل الوعي، وأنَّ الكائنات لا تفتقر في وجودها إلى مخلوق بشري يعيها.. بيد أنَّ عدداً من الفلاسفة تقحموا حماقات إيديولوجية: يحار الفكر في تسليمهم بها مع عظم عبقريتهم، وسعة معارفهم؛ فثمة فلاسفة يعرفون بالمثاليين الذاتيين كـ(باركلي)، و(ماخ) يقولون: ما ثمة موجود موضوعي خارج حسنا؛ إنما الموجود الإحساس الذاتي؛ أي الثابت في إحساسي، أو المشترك في إحساس عدد الناس، ويترتب على هذا المذهب: أنَّ الإنسان لا يعرف الأعيان بصفاتها وخصائصها؛ أي أنه لا وجود لشيىء خارج الحس البشري له صفات وخواص؛ وإنما الحس البشري بوجود هذه الإحساسات فيه: خلق أشياء خارج الحس ومنحها صفات وخصائص، ويلزم هؤلاء أنه لا وجود إلا للوعي البشري، وبعضهم يقول: توجد أعيان خارج وعينا، ولكن حسنا البشري لا يعكس لنا صورة هذا الوجود ولا سبيل لنا إلى المعرفة إلا بالحس؛ لذا فنحن عاجزون عن معرفة الأعيان الموجودة؛ وبهذه يلتقون في كلتا الحالتين مع الارتيابيين.. ومجرد عرضنا لدعوى المثاليين، ومن يقول باستحالة المعرفة كافٍ للدلالة على سخافة هذه الدعوى، ولكن الإنصاف يقتضي منا عرض وجهة نظرهم مصحوبة بتأييداتهم لها.. ولقد رأيتُ: أنَّ كل تأييد لهذه الدعوى يقوم على التمثيل بحالات من حالات خداع الحواس: خُذْ على سبيل المثال: الأول يقول الفيزيولوجي الألماني (موللر): (إنَّ الإحساسات لا تتعلق بتأثير أشياء العالم الخارجي؛ بل بأعضاء الحواس ذاتها)؛ أي الطاقة النوعية الملازمة لها؛ وهذا يعني أنَّ معرفتنا الحسية ليست، انعكاسات للعالم الخارجي؛ وإنما هي من معطيات الحس نفسه.. وقد وسَّع (فورباخ) هذه النظرية وسماها (المثالية الفزيولوجية).. وماداموا يتكلمون بلغةٍ فيزيولوجية فالأمر هين.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ المعرفة الحسية التي نعتبرها انعكاساً للواقع الخارجي: لا تنكر أنَّ للحواس معطيات من نفسها لا تعكس الواقع، ونحن نستثني حالة خداع الحواس من المعرفة الحسية التي نؤمن بها، والمعرفة الحسية المبرأة من خداع الحواس: مشروطةٌ بسلامة الحواس؛ فالعين السليمة المجردة تعكس العالم الخارجي، ولكنها لا تعكسه كما يعكسه المجهر.. والمثال الثاني يذهب (غيل مغولنر) أحد العلماء الطبيعيين في القرن التاسع عشر في كتاب له اسمه (فيزيولوجية البصريات) إلى أنَّ الإحساسات رموز للظواهر الخارجية ينتفي عنها كل تشابه مع الأشياء التي تمثلها؛ وهذا يعني: أنَّ الحس البشري لا يعكس الواقع؛ لأنه لا تشابه بين الإحساس والمحسوس، وعلى هذا أيضاً: يكون الإحساس مجرد رمز، ونظرية الرمز هذه تسمى (النظرية الهروغلوفية)، قال بها (بليخانوف)، ونحن لا نقول: أنَّ إحساسنا ينقل لنا الأعيان في الخارج على صورة واحدة، ولا نقول إنه ينقل لنا صورة كل جانب من جوانب أحد الأعيان؛ بل هذا مرهون بطاقة الحس واستعداده وفي شريعة ربنا: نحن مكلفون في عبادتنا ومعاملتنا وفق الطاقة الحسية المشتركة بين المسلمين؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. ونقول أيضاً أنَّ حسنا مهما كانت طاقته يعكس لنا شيئاً موجوداً، لا يخلع على الأشياء صفات غير صفاتها؛ وإنما يعكس صورة الموجود؛ فرؤيتنا للقمر قرصاً أصفر بالعين المجردة انعكاس صحيح لصفحة القمر حال بعده.. ورؤيتنا له ودياناً وجبالاً بالتليسكوب المكبر انعكاس صحيح لصفة القمر حال قربه؛ ولإيضاح هذه الحقيقة أحبُّ أنْ أناقش صورتين من صور الخداع الحسي؛ ليكون ذلك أنموذجاً لنقاش كل صورة من صور الخداع الحسي: الصورة الأولى لنأخذ شيئين موجودين في غرفة واحدة في شروط واحدة: أحدهما معدني، والآخر خشبي؛ فسنجد أنَّ اليد تحس بأنَّ المعدني أبرد من الخشبي مع أنَّ حرارتهما واحدة؛ فالإحساس باللمس خدعنا؛ فكيف نجعل الإحساس صورة للواقع؟.. ويجيب العلماء عن ذلك: بأنَّ حرارة المعدن والخشب متساوية، بلا ريب إلا أنَّ الخشب سيىءُ النقل لحرارة اليد بخلاف المعدن الذي ينقل الحرارة بسرعة؛ فإحساس جلدنا اللامس انعكاسٌ للفارق بين سرعتي الحرارة، وعلى هذا يكون إحساسنا نقل لنا صورة من صور الواقع.. والصورة الثانية إذا وضعتُ يدي اليمنى في ماءٍ ساخن، ووضعت اليسرى في ماء بارد، ثم نقلتهما إلى ماء عادي: تبيَّن لي: أنَّ اليمنى تشكو البرودةمع أنها خرجت من الماء الساخن، في حين أنَّ اليسرى تشكو الحرارة مع أنها خرجت من الماء البارد؛ فالحواس نقلت لنا عكس الواقع فكيف تكون صورة له؟، ويجيب العلماء عن ذلك: بأنَّ قانون الفيزياء يقرِّر أنَّ الحرارة تنتقل من الأجسام التي تتمتع بحرارة أعظم إلى الأجسام التي تتمتع بحرارة أدنى؛ فالحس نقل لنا صورة من صور الواقع.. انظر كتاب (المادية الدياليكتيكية) ص 164-165.. وهذا الواقع من خداع الحواس: لا يعني إطراحنا للحواس؛ وهي مصدر معرفتنا؛ بل يعني: استقراءها وتحليلها بشكل صحيح دقيق، ويعني: الإحاطة بقوانين الأعيان، وكل ذلك لا يتأتى إلا بعد استخدامنا للحواس؛ وهو: أنْ نربط معطياتها بنشاط التفكير عندنا، قال مؤلفو كتاب (المادية الدياليكتيكية ص 166): ((ليس هناك مجال للشك المبدئي بما تدلنا عليه أعضاء حواسنا، ولكن هذا لا يعني أنَّ الإحساسات تعطي صورة دقيقة كل الدقة من الواقع الموضوعي في ذات اللحظة التي يصبح فيها هذا الواقع موضوع إدراك أعضاء حواسنا.. إنَّ الصورة الأولية للأشياء المادية تتوضح وتغتني وتتكامل تدريجياً، على أساس الإدراكات المتكررة كثيراً، وعلى أساس عمل الفكر المتحقق منه بمختلف أعضاء الحواس، وعلى أساس نشاط الإنسان العلمي المتعدد الجوانب))، وإلى لقاءٍ عاجل إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -