اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لا شك أن النمط القيادي الناجح هو النمط الذي يعتمد فيه القائد على القيادة بالقدوة، متخذاً من إقناع المرؤوسين والتأثير فيهم سبيلاً لإثبات الوجود والاعتراف بالنفوذ، كما يتخذ من الثواب ما هو كفيل بالتشجيع وبناء الثقة، ومن العقاب ما يضمن معالجة الأخطاء والمحافظة على هيبة السلطة واحترامها.
وقد قال المفكر الأمريكي ماري بول: القيادة يجب أن تكون مشاركة بعدها توجيه وإمكانات بعدها إداء.
وتأسيساً على ذلك فإن القائد الذي يجيد فنون القيادة هو الذي يتحلى بالصفات والمبادئ القيادية، جاعلاً من نفسه قدوة يُقتدى بها، ومثلاً يُحتذى به انطلاقاً من شخصيته الجاذبة ورؤيته الصائبة في الوقت الذي يستخدم فيه الثواب والعقاب من أجل مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، والتعامل بعدل وإنصاف مع الفروق الفردية بين المرؤوسين، وقد قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: الرجل الأكبر في السلطة عليه أن يكون الأكبر في الفضيلة، فلا يمكن أن يكون القائد أقل فضيلة من المقودين.
ومن هذا المنطلق فإن حق القائد في أن يقود يقتضي منه أن يكون قدوة للمرؤوسين لأنه مثلما يطالب هؤلاء المرؤوسين بمنافسة الآخرين والتفوق عليهم في سبيل رفع مستوى الوحدة أو المؤسسة فإنه مطلوب منه أن يتفوق على نظرائه في سلم القيادة، حيث إن المثل يولِّد المثل، والمرؤوسون يضعون أنفسهم في القالب الذي يصنع لهم القائد الذي يحترمونه ويرون فيه المثل والقدوة، وكما قال مارك توين: لا شيء يخلق الأتباع مثل القائد القدوة والمثال. وقال ألبرت آينشتاين: أن تكون القدوة والمثال هي الوسيلة الوحيدة والأكيدة كي تؤثر في الأتباع وتقودهم ويتبعوك.
والقائد الحصيف يترجم أقواله إلى أفعال، متحملاً مسؤولية ما يقول، وواضعًا في حسبانه أن المثل خير معلم وأن المرؤوسين يرون بعيونهم قبل أن يسمعوا بآذانهم، الأمر الذي يتطلب من القائد أن يثبت أهليته للقيادة، طالباً منهم إتباعه والاصطفاف خلفه نحو تحقيق أهداف الوحدة أو المؤسسة التي رسمتها القيادة الأعلى، منطبقاً عليه مضمون المأثورة التي تقول: إذا أردت أن تكون إماميًا فكن أماميًا، وقال أحد خبراء القيادة: القائد يجب أن يكون قريباً من أتباعه كي يكون تواصله معهم كبيراً وفي الوقت نفسه عليه أن يكون متقدماً أمامهم بمسافة كي يحفزهم ويحثهم.
وعندما يكون القائد قدوة صالحة بفضل ما يتصف به من مكارم الأخلاق ويتحلى به من الفضائل فإنه يتوفر لدى الأتباع الدافع لتقليده متى ما رأوا في ذلك ما يدفعهم إلى الاقتداء به وترسم خطاه سواءً داخل محيط المهنة أو خارجه، ولسان المقال يشهد على واقع الحال، وقد قيل: القادة الأفضل يتبعهم الرجال الأفضل. وقال الفيلسوف الصيني لوتسو مؤلف كتاب الطريق: القائد هو معلم وهو نموذج، وهو ينجح حينما لا ينسب كل إنجاز إلى نفسه، ولأنه كذلك فإن كل الإنجازات سوف تنسب إليه.
والواقع أن طبيعة عمل القائد تضعه دائمًا محل اهتمام المرؤوسين الذين ينظرون إليه للحذو حذوه والسير على هديه، مما يحتم عليه الحرص على الظهور بالمظهر اللائق الذي تتجسد من خلاله المثل العليا التي ينشدونها، فيسيرون خلفه بدافع الإعجاب والاحترام نتيجة لتأثير شخصيته وقوة نفوذه وما ينادي به من القيم والمثل التي يحاول من خلالها الربط بين المظهر والجوهر، تاركاً الفعل يتحدث بصوت أقوى وأعلى من القول، وقد قال المفكر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: حينما يقود القائد ويحكم بفضائله، فإنه مثل نجم القطب الشمالي ثابت في مكانه وكل النجوم تدور وتهتدي به.
والأتباع إذا ما تأكد لهم أن قائدهم يعمل بتفانٍ وإخلاص مضحياً بمصالحه الخاصة ورغباته الذاتية في سبيل المصلحة العامة، تأثروا بذلك والتفوا حوله مهما كانت الصعوبات والتضحيات، لأن القائد الذي يدفعه شرف المهنة وتقديس الواجب إلى التضحية جدير بأن يُتبع ويقتدى به من قبل أتباعه الذين يؤثر فيهم بالقدوة وحسن الأسوة، وكما قال أيزنهاور: من السهولة أن تعين قائداً في موقع قيادي ولكن هذا لا يعني أنه أصبح قائداً، القيادة تكون حينما يقتنع بها عقول الأتباع وتطبع على قلوبهم.
وصاحب المرتبة أو الرتبة كلما ارتفع به المقام وعلت به المناصب خفّت مراقبة الرؤساء له نتيجة للثقة فيه والتعويل على شعوره بالمسؤولية بفضل ارتقائه في السلم الوظيفي، كما يقابل ذلك زيادة المراقبة له من قبل الأتباع الذين يفتشون في تصرفاته عن مُثل عليا يتمثلون بها وأسوة حسنة يتأسون بها، وقد قال الجنرال بروس كلارك: الرتبة التي تمنح إياها تعني أنك أصبحت مسؤولاً أكثر أمام مَنْ هم فوقك وقائداً أكثر للذين هم تحت إمرتك.
ورغم تنوع أنماط القيادة وتعدد نظرياتها فإن القائد الناجح هو الذي يتخذ له طريقاً يعتمد فيه على قيادة القدوة النابعة من تأثير شخصيته وقوة نفوذه مع مراعاة مقتضيات الضرورة التي يتم على ضوئها التوفيق بين متطلبات المركزية ودواعي اللامركزية لضمان تفعيل دور القيادة وتطبيق فنونها بما في ذلك تشجيع المرؤوس ومكافأته عندما يحسن ومحاسبته عندما يخطئ في بيئة يتمتع فيها بالمبادأة والحرية المقيدة بين الإقناع المطلوب والحد الأدنى من الإرغام المحسوب.
وبالطبع فإن التشجيع ومنح المثوبة والتأنيب وتوقيع العقوبة، وما يرتبط بذلك من متابعة ومراقبة تعتبر من فنون القيادة التي لا يجيدها ويحسن استخدامها إلا القائد المطبوع الذي لديه القدرة على الغوص في أعماق الطبيعة البشرية وتمييز الفروق الفردية بين الأتباع، موازناً بين النظرة الفردية والنظرة الجماعية تبعاً لحجم الوحدة وتسلسل القيادة بالشكل الذي يُمكّنه من تحديد مردود هذه العوامل، وما لها من تأثيرات معنوية وانعكاسات نفسية على منسوبي الوحدة أو المؤسسة يتوقف عليها نجاح القيادة أو فشلها في إنجاز مهامها وبلوغ أهدافها.
ومن هذا المنطلق فإن المراقبة الفاعلة والشاملة يتم بموجبها التمييز بين المرؤوس صاحب الضمير الحي وفاقد الضمير من أجل تشجيع الأول وردع الثاني، حيث إنه في غياب المراقبة والمتابعة يصعب التفريق بين الاثنين، ومع مرور الوقت وعدم وجود القائد المراقب يتلاشى مفعول الضمير ويضعف الوازع الداخلي والدافع الوجداني، وعندئذ يتحول المرؤوس الصالح إلى طالح في ظل التسيب القيادي وفقدان المراقبة والإشراف وما يترتب على ذلك من انتقال عدوى الطبع وتأثر طبع الأخيار من جراء ممارسة الأشرار وعدم المحاسبة.
وبما أن إعطاء الأوامر أسهل من تنفيذها فإن المراقبة يجب أن تشمل جميع المستويات ومختلف المجالات وأن تكون فاعلة للتأكد من عملية التطبيق وطريقة التنفيذ بوصف الإشراف على تطبيق الأوامر وطريقة التنفيذ يشكل المحك الحقيقي لمواهب القائد ومفتاح نجاح قيادته، وقد قال الرئيس ودرو ولسن: حينما أمنح رجلاً موقعاً فإني أراقبه بعناية لأرى هل هو ينتفخ أم ينمو؟
وأوامر القائد يتعين أن تكون على درجة من الدقة والوضوح وأن تصاغ بالصيغة التي تنأى بها عن التفسيرات والتأويلات، ورغم أن الأمر يعود إلى السلطة وصفة من صفاتها إلا أن القدرة على تنفيذه تعود إلى القائد الذي يتمتع بنفوذ قوي وشخصية مؤثرة يستطيع بفضلها توجيه المرؤوسين والتعاون معهم في عمل جماعي نحو هدف مشترك ومصلحة عامة.
والثواب والعقاب من اللوازم اللازمة لسياسة النفس البشرية وربطهما بخصائص المرؤوس والفروق الفردية تدل دلالة واضحة على وعي القائد وجدارته مع ملاحظة أن المثوبة ذات طابع تشجيعي وتكشف تلقائياً عن مسوغاتها، بينما العقوبة تتطلب الاقتناع التام بمبرراتها وعدالتها لما تنطوي عليه من تأنيب وتأديب.
وكما أن المثوبة تشجع المرؤوس الصالح وتزيد من صلاحه فإن العقوبة وسيلة من وسائل إصلاح المخطئ وتخليصه من أخطائه وعدم تكرارها أو سجنه فيها مع التأكيد له بأن التأنيب لا يتعارض مع التهذيب والتأديب لا يخرج عن محيط التعليم والتدريب، وقد قيل: امتدح أتباعك بصوت عالٍ، ووبخهم بهدوء.