جانبي فروقة
نشر عالم الفيزياء ألبرت آينشتاين في عام 1905م بحثا يصف العالم الحقيقي كمحيط رباعي الأبعاد وأضافت نظريته عن النسبية الخاصة مفهوم الزمان كبعد رابع لأبعاد الفضاء التقليدية (الطول والعرض والارتفاع) وصاغ مفهوم الزمكان.
واليوم بروز مفهوم الميتافيرس (metaverse) سيضفي بعداً خامساً على واقعنا وهو البعد الرقمي (الديجيتال). ويجعلنا ننتقل من مشاهدة عالم ثنائي البعد على الإنترنت إلى العيش داخل الإنترنت في عالم ثلاثي الأبعاد وقد صاغ نيل ستيفنسون مصطلح metaverse في روايته للخيال العلمي بعنوان Snow Crash (تحطم الثلج) في عام 1992، حيث تخيل فيها صورًا تجسيدية نابضة بالحياة اجتمعت في مبانٍ ثلاثية الأبعاد واقعية وبيئات الواقع الافتراضي الأخرى، ثم قام مارك زوكنبرغ (الرئيس التنفيذي لميتا (فيس بوك سابقا) بتحويل اسم فيس بوك Facebook إلى ميتا Meta في محاولة لتبني مصطلح الخيال العلمي metaverse وعلق مارك زوكنبرغ قائلا: «في المستقبل وبدل التحدث على الهاتف فقط ستتمكن من الجلوس على أريكتي أو سأتمكن أنا بتقنية الهولوغرام (الثلاثية الأبعاد) من الجلوس على أريكتك وكأننا في نفس الغرفة رغم أننا موجودان في ولايات مختلفة أو على بعد مئات الأميال من بعضنا».
كما علق المؤلف ماثيو بول «من الأفضل فهم أن الميتافيرس هو تحول تفاعلك عن طريق الجهاز الذي تحمله في جيبك إلى عيش تجربة لمحاكاة افتراضية».
تقدر شركة ماكينزي في بحث مفصل أن القيمة المحتملة لمساهمة الميتافيرس (metaverse) في مختلف الصناعات قد تصل إلى 5 تريليونات دولار بحلول عام 2030 وهذا يعادل اليوم حجم اقتصاد اليابان وهي تشكل أكبر فرصة للنمو خلال العقد القادم بالنظر لقدرتها على خلق تفاعل جديد لكافة الأعمال التجارية والخدمات بين بعضها وبينها وبين المستهلكين مباشرة. وتقدر الاستثمارات في فضاء الميتافيرس في عام 2022 م أكثر من 120 مليار دولار.
وسيختلف التأثير للميتافيرس باختلاف الصناعة فعلى سبيل المثال ستسهم بما يتراوح بين 2 إلى 2.6 تريليون دولار في مجال التجارة الالكترونية (e-commerce ) بحلول عام 2030 م وكذلك تقدر ماكينزي التأثير لميتافيرس على سوق التعليم الأكاديمي الافتراضي بحوالي 270 مليار دولار والتأثير بـ125 مليار دولار على سوق الألعاب والتي تظهر فيه بشكل واضح حاليا. من المؤكد أن التأثيرات ستكون بطرق مختلفة وحسب القيمة التي سيتضفيها الميتافيرس على كل منتج أو خدمة من الخدمات المصرفية إلى الرعاية الصحية وعالم الترفيه والسفر والطاقة والميديا وعالم الاتصالات وصناعة السيارات وعالم الأزياء والموضة.
إن فضاء الميتافيرس سيقود إلى تفاعل تشاركي بين العلامات التجارية والمستهلكين بخلقه تجارب تسوق جديدة في مجال السوشيال ميديا والترفيه والسفر والتسوق. وفضاء الميتافيرس يستخدم الواقع الافتراضي VR والواقع المعزز AR كواجهات دعم لمساعدة المستخدمين على تجربة الميتافيرس وعلى سبيل المثال تشير الدراسات إلى أن الكثير من المستهلكين متحمسون لإمكانية السفر في الميتافيرس لزيارة دول وأماكن لا يستطيعون زيارتها بشكل فعلي.
ولفهم الواقع المعزز والافتراضي يجب أن نعرف أن AR ( Augmented Realty ): هو الواقع المعزز الذي يستخدم واقعك الحقيقي مع إمكانية إضافة عنصر أو عناصر غير حقيقية لتكمل لك الصورة، على سبيل المثال تستعمل إيكيا (في عالم المفروشات) هذه الخاصية مع الزبون عن طريق تطبيق على جهاز الموبايل يمكن الزبون من أن يرى قطع الأثاث في زوايا منزله من خلال جهازك وأما الواقع الافتراضي VR Virtual Realty فهو يأخذ المستخدم لعوالم أخرى ويستبدلها بتجربة محاكاة العيش في عوالم افتراضية أو بعيدة، مثلا أن تكون أنت في الصين وتقوم بزيارة غابات الأمازون.
تشير الدراسات إلى أن أكثر من 87 % من المشاركين باستطلاع من الجيل Z (وهو الجيل من مواليد 1997 إلى 2012) أنهم شاركوا في الألعاب الإلكترونية (على سبيل المثال إن منصة روبلكس Roblox لديها ما يقارب من 55 مليون في المتوسط اليومي وحققت أرباحا تقدر بـ1.9 مليار دولار في عام 2021) وبالنسبة لجيل الألفية (وهم المجموعة من الناس التي تتراوح مواليدهم بين 1981 إلى 1996) فإن اللياقة والتعليم والتسوق تحظى بشعبية كبيرة لديهم. وهناك شهية مفتوحة بقوة لدخول العلامات التجارية للملابس والأزياء عالم الميتافيرس لخلق تجربة تسوق افتراضية مثيرة للمستهلكين. فسلوك المستهلك اليوم صار يتبنى فكرة الاعتماد على الشخصوص الرقمية، والعلامات التجارية بدأت تفكر بحلول عملية لابتكار أصول رقمية لمنتجاتها.
إن تطبيقات الميتافيرس عملية جدا وستؤثر بشكل إيجابي في تطوير واقعنا الفعلي فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن طلاب الطب سيتمكنون من ممارسة كل أنواع العمليات الجراحية بشكل افتراضي وبمهنية عالية حتى يتدربوا بشكل جيد ويصبحوا جاهزين لدخول غرف العمليات الحقيقية مع مرضى حقيقيين، ناهيك عن الإمكانات التي ستفتحها الميتافيرس لإجراء العمليات الجراحية المعقدة عن بعد وكما سيتمكن طلاب التاريخ من زيارة أرسطو في مجلسه والتعلم مباشرة منه والتفاعل معه. إن عالم الميتافيرس لا تستبدل عالمك الواقعي بآخر افتراضي ولا تقدم خيارا بين عالم واقعي وآخر افتراضي بل هي تكمل العالم الحقيقي بتعزيز تجارب حياتنا الواقعية وهي توفر البعد الرقمي لكل شيء حقيقي وتساعدنا على إدراكه.
لعل الغد لا يحمل لنا هويات رقمية فقط بل سيرسم لنا شخصيات ورغبات وطموحات رقمية أيضا.