فالمرء الَّذي يعيش مع كتاب الكريم بطريقة دائمة ومستمرة فإنه يجد نفسه وسط حديقة غناء مليئة بالأشجار والزهور والورود, حيث إنه يتنقل بين جنباتها ورياضها من غصن إلى غصن, ومن ورقة إلى ورقة, ومن شجرة إلى شجرة, حيث الإعجاز في الأداء والدِّقَّة والتصوير وسموّ المضمون فضلاً عن صدق التعبير... فإن الأمر الذي يحدث بين هذا وذاك يعتبر في حد ذلك انسجاماً طبيعياً بين النَّفس البشريَّة وبين الرُّوح القرآنية العالية, فلا نرى إلَّا دوياً عميقاً في الكيان البشري يردِّد في هَمْسِ وتبتُّلِ كل آيات الله الكريمة بالحب الدائم والإيمان العميق.
فهذا كنموذج لما يشعر به صاحب الفطرة اللغوية البريئة نحو هذا الروح الخالد. لذا فإنني من خلال تلك المقدمة القصيرة عن كتاب الله الكريم أقدم للقارئ الكريم بعض هذه اللمسات البيانية الجميلة الراقية نحو آية من آياته العظيمة، مما جعلني أقف أمامها مراراً وتكراراً متأملاً ومتفكراً ومتعجباً ومندهشاً من هذا النور العظيم الذي نظم حروفها وكلماتها حتى أصبحت لؤلؤة من الماس المضيئة – تلك هي الآية الكريمة – قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (سورة البقرة آية 32).
فهذه الآية سابقة الذكر - تتحدث عن ملائكة الرحمن. وبعد التأكد من هذه الآية في سياقها العام نجد أنها تقدم الاعتذار الرقيق من الملائكة نحو ما صدر عنهم حين أخبرهم رب العزة والجلال.
بأن ((آدم)) عليه السَّلام سيصبح خليفة في هذه الأرض المعمورة - حيث سألوا ربهم جل وعلا - طالبين منه معرفة وجه الحكمة الإلهية في استخلاف مثل هذا المختلف الطبائع والمركب من القوى المتباينة (الشهوة - الغضب - العقل) بقولهم:- {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (سورة البقرة آيه 30).
وعندها أجابهم الله - تعالى - إجمالياً بقوله إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة البقرة آيه 30).
ثمَّ وضّح لهم هذا الجواب بطريقة الاستدلال حيث ثبت فضله عليه الصَّلاة والسلام بالعلم والتعلم حين عجز الملائكة عن الإنباء بالأسماء في الوقت الذي أنبأهم بها (آدم) عليه السلام. عند ذلك توجهت الملائكة إلى الخالق جل وعلا بتلك الهَمْهَمات الضارعة إلى الله تعالى بالتنزيه والتقديس حيث نعود إلى الآية الكريمة محور حديثنا حتى نتلمس بعض جوانب الإعجاز والتي جعلت منها لوحة مشرقة ترجمت عن شعورهم الصادق النبيل.
فقد قال سيدنا (موسى) عليه السلام سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (سورة الاعراف آيه 143). وقال سيدنا (يونس) عليه السَّلام لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (سورة الأنبياء آيه 87).
1 - توضيح العجز المتمثل في قولهم (لا علم لنا) بسط وتوكيد لقولهم (سبحانك) واعترافهم كما جاء على صورة الخبر ليفيد الثبوت والدوام في معرض الاعتراف بالعجز.
ومن بديع السياق في قولهم اعتذار الملائكة فقد قال الله تعالى لهم إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وعند اعتذارهم قالوا: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) إنها تحقق قوله تعالى إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .
2 - جمال النظم في قوله تعالى: لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا حيث تجد أداة النفي قد تقدمت على النكرة ثمَّ استثنوا من ذلك ما علمهم الله .. وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للعليم الأوَّل جل وعلا.
3 - تقديمهم صفة العلم على الحكمة إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فتلك الأسرار العظيمة التي جاشت بها نفوس الملائكة عليهم السلام فقد حملت بين جنباتها وطياتها أسمى نغمات التوبة الصادقة والاعتذار الرقيق إلى خالق هذا الكون العظيم.