عبدالرحمن الحبيب
«من تغير المناخ إلى الحرب النووية، والأوبئة المهندسة، والذكاء الاصطناعي غير المنضبط، والتقنيات المدمرة الأخرى التي لم يتم توقعها بعد، يتكالب عدد مقلق من المخاطر مهدداً بنهاية البشرية». هذا ما كتبه الفيلسوف ويليام ماك أسكيل من جامعة هارفرد، موضحاً أنه بينما تواجه المجتمعات «النسيان المحتمل»، ما الخطوات التي يجب أن تتخذها الحكومات لضمان مستقبل للبشرية، ولجعله يستحق أن يكون له مستقبل لائق؟
وإذا كان فرانسيس فوكوياما سبق أن طرح فرضيته المشهورة بـ»نهاية التاريخ» قبل أكثر من عشرين عاماً فإن ماك أسكيل على عكسه تماماً، يقول: «على النقيض من فوكوياما، أنا أزعم أننا قد نقف في بداية التاريخ، وليس في النهاية. لكن الأجيال القادمة قد لا ترى ضوء النهار أبدًا ما لم نتمكن من درء مخاطر الانقراض أو الانهيار الذي أصبح ممكنًا بسبب تقدمنا التكنولوجي».
يبدو الأمر متشائماً وعجيباً، فكيف يكون التاريخ في بدايته؟ يجيب ماك أسكيل: «بالرغم من أن الأمر قد يبدو غريبًا، فنحن القدماء.. نحن نعيش في بداية التاريخ، في الماضي البعيد». عندما نفكر في مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة، فإن تاريخ البشرية المكتوب يمتد على مدى خمسة آلاف سنة فقط، إلا أن مستقبلنا غير المكتوب يمكن أن يستمر لملايين أخرى، أو قد ينتهي غدًا.. يمكن لعدد مذهل من الناس أن يعيشوا حياة مليئة بالسعادة أو المعاناة التي لا يمكن تصورها، أو لا يعيشون على الإطلاق، اعتمادًا على ما نختار القيام به اليوم... مصير العالم في أيدينا».
صدر مؤخراً لهذا الفيلسوف كتاب بعنوان «ما نحن مدينون به للمستقبل» (What We Owe The Future)، طارحاً فيه ما يعتبره قضية رئيسة في عصرنا وهي أخلاقية «المدى الطويل» (longtermism)، التي تؤثر بشكل إيجابي على المستقبل.. مدافعاً عن فكرة أنه للتأثير الإيجابي على المستقبل البعيد لا يُكتفى بعكس مسار تغير المناخ أو تجنب الجائحة التالية، بل يجب التأكد من أن الحضارة ستنتعش إذا انهارت؛ ومواجهة نهاية التقدم الأخلاقي؛ والاستعداد لكوكب يكون فيه أذكى الكائنات رقميًا وليس بشريًا. إذا اتخذنا خيارات حكيمة اليوم، فسوف يزدهر أحفاد أحفادنا، مدركين أننا فعلنا كل ما في وسعنا لمنحهم عالمًا مليئًا بالعدالة والأمل والجمال.
مواجهة هذا التحدي «ستتطلب الجرأة والخيال» كما كتب ماك اسكيل: «تظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهائلة ممكنة، وضرورية. إذا تصرفنا بحكمة، فسيتم تحديد القرن القادم بالاعتراف بما ندين به للمستقبل، وسينظر أحفاد أحفادنا إلينا بامتنان وفخر. إذا أخطأنا، فقد لا يرون ضوء النهار أبدًا».
يذكر ماك اسكيل أن أحد التهديدات التي يتم إهمالها هو أننا نفقد السيطرة على الابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي، بمجرد أن يصبح أفضل من البشر في تطوير أشكال جديدة من الذكاء الاصطناعي للآلات نفسها. وقد سبق للمفكر الأمريكي فوكوياما نفسه أن تراجع عن أطروحة «نهاية التاريخ» لصالح أطروحة «مستقبلنا ما بعد الإنسان» عن عواقب الثورة التكنوحيوية وأن التاريخ لم يصل لنهايته بعد، لأننا لم نصل إلى نهاية علوم الحياة (البيولوجي) التي سيأتي منها التقدم الأعظم.. ويطرح تساؤلات حول قدرة هذه العلوم في تعديل السلوك البشري.
ويؤكد على ضرورة تنبيه عموم الناس من العواقب الناجمة عن التقنية الحيوية إذا ما أسيء استخدامها، رغم أن طبيعة البشر - حسب فوكوياما - قد لا تكون مشجعة في توخي الحذر نتيجة التلقائية والتلهف لتعديل الأجسام أو النفسيات. لذا يعتقد فوكوياما أن القرارات التي تنظم التقنية الحيوية ينبغي أن تكون حذرة عبر مؤسسات وليس من خلال رغبات الأفراد التي تنظر على مستوى المدى القصير..
يعتقد فوكوياما أن أول إنسان مستنسخ ربما ولد أو أنتج في الولايات المتحدة، فإذا اخترنا ما نستنسخه أو ما نخلقه، ماذا سيحدث للمبادئ الأخلاقية وقواعد السلوك الإنساني؟ هل ذلك يعني نهاية الطبيعية البشرية؟ نهاية الإنسان كنمط سلوك؟ يحاول فوكوياما إقناعنا بأن المحصلة النهائية لثورة التكنولوجيا الحيوية (البيوتكنولوجي)، خاصة مع القدرة على معالجة الجينات للأجيال، سيعمق ويعقد صعوبة العواقب في ترتيب خياراتنا السياسية وسلوكنا البشري.
يوضح فوكوياما أن الكتابة عن العلوم التكنوحيوية لشخص مهتم بالاقتصاد والسياسية قد يكون مفاجئاً، ولكن هناك مسوغ لهذه الحماقة! إننا الآن قريبون من نهاية العلم مغمورون بفترة تقدم هائل لعلوم الحياة، وذلك يدعو للتفكير في الصدمة التي تقوم بها هذه العلوم على السياسة، مما يؤثر في طبيعة البشر وقواعد سلوكهم، ويؤثر في فهمنا عبر المعلومات التجريبية الجديدة في حقول علوم الأعراق ونظرية التطور البيولوجي وعلوم الأعصاب.
هناك انتقاد واسع لأطروحة ماك أسكيل الأخلاقية في مفهوم مستقبل «المدى الطويل»، وهو الاهتمام بالأجيال القادمة التي لم تولد بعد، مع شيء من الغموض لأشخاص يقلقون بشأن تهديدات أسطورية من الذكاء الاصطناعي وهي في أحسن الأحوال تعتمد على تكهنات وأحكام قيمية مسبقة تعسفية وساذجة. إضافة أنه يستحيل توقع التطورات التكنولوجية الحيوية على المدى الطويل، لأن كل تطور صغير يضفي إلى تحولات مفاجئة في مسار التقدم التقني ولا يمكن توقعها..