صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
منذ القدم عرف العرب عن الإبل رهافة حسها وميلها إلى سماع الموسيقى، وتمييزها لضروبها ومعرفتها للأصوات، وبالأخص صوت صاحبها، فأطلقوا على جِمالهم الأسماء ونادوها بأصوات وإشارات وهمسات خاصة، كما غنوا لها المواويل، فكان غناؤهم إحدى وسائل التواصل والتخاطب معها، والتي من خلالها يتم حث الجِمال على المسير، أو تبعية صاحبها، أو الالتفاف حوله في حال تفرقها مبتعدة عن نسق مسير القافلة وهكذا. وقد سمي هذا النوع من الغناء للإبل بـ (الحِداء أو الحُداء) واللفظة المفردة منها أُحدوة أو أُحدية، ومغنوها هم الحُداة جمع لكلمة حادٍ أو حدّاء.
والحداء أحد الفنون الغنائية العربية التي ارتبطت بمحاكاة الإبل تحديدا لتمدها بالنشاط والسرعة أثناء السير، فقد استلهم الإنسان العربي طرائق التنغيم اللفظي والوزن الشعري في التأثير عليها بفطرته، جاعلا من صوته وأوزان شعره وسيلة فريدة للتأثير في نشاطها ليمدها بالطاقة فتنطلق بطريقة فريدة تقطع الفيافي دون كلل أو ملل، ولإدخال الأنس عليها لإزالة الوحشة في وسط الصحاري.
وأمهات كتب الأدب والتاريخ تؤكد أصالة فن الحداء عند العرب كمروج الذهب لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت: 346 هـ - 957 م) والعمدة لابن رشيق القيرواني (ت: 463 هـ - 1063م)، ومقدمة ابن خلدون (ت: 808 هـ - 1406م).
فقد نقل المسعودي عن ابن خرداذبه (أبو القاسم عبيد الله ابن خرداذبة مؤرخ وجغرافي اشتهر بكتابه المسالك والممالك ت:300 هـ - 912م) أن الحداء (صوت الغناء للإبل، رجل حاد وحداء هو الذي يحدو الإبل، أي يغني لها لتتبعه. تقول العرب: فلان حداء قراقريا - أي جهوري الصوت شديد النبرات، وأصل الحداء: أن تدعو الإبل فتقول: داه - بالتسكين - أو تقول: دهده... دهده - بالضم - لتجيء إليك أو إلى أولادها) في العرب كان قبل الغناء وأنه أول السماع والترجيع فيهم، ثم ما لبث أن اشتق الغناء منه. وذكر المسعودي أن غناء العرب كان النصب، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أجناس: الركباني (رُكبان: السوابق والأوائل. ركِبَ الدابة يركب ركوباً: عَلا عليها، وكل ما عُلِيَ فقد ركب وارتكب) والسناد الثقيل (السِّنَادُ في القافية: اختلافُ ما يراعى قبل الروي من الحركات وحروف المد، وهو من عيوب الشعرِ، الثَّقيل (في الموسيقى: ضرب الثقيل من النغم) والهزج الخفيف (الهزج: صوت الإنسان فيه بحة، صوت السهم المنزلج من القوس، صوت القارئ المتطرب في القراءة، صوت المغني. الخَفِيفُ، أحد بحور الشعر الكثيرة الشيوع قديمًا وحديثًا ويؤسس الشطر منه على النحو التالي: فاعِلاتُن مُستفعِلُنْ فاعلاتُنْ).
أما ابن رشيق فقد خالف المسعودي في الرأي عندما قال: إن النصب (النَّصْبُ: نوع من الغناءِ بسيط رقيق) كان غناء الركباني والفتيان، ومنه كان أصل الحداء كله.
الحداء أول الغناء العربي
في حالة الترحال التي اعتادها العرب قديما بفطرتهم وألفوها على الرغم من أخطارها ومشقاتها، لأنهم كانوا لا يسعدون بالاستقرار لأنه يحجزهم ويقيد من حريتهم وتحركهم ضمن إطار محدد.
في رحلاته تلك اكتشف العربي أن الغناء يبدد وحشة الليل في البيئة الصحراوية، واكتشف في أسفاره أن الإبل التي هي «سفن الصحراء» أيضاً تطرب إلى الحداء، وكأن الخلاء والتأمل في النجوم يجعلانهم يربطون بين نظام إيقاعي يحسّونه من حولهم. وكان لابد للحداء أن يتألف من إيقاعات وكلمات بسيطة تقترن بالحركة. من هنا، ولد عروض الشعر الذي ينبني على الموسيقى.
والحداء غناء وطرب للراعي والإبل, والحداء بكسر الحاء أو ضمها أو الحدو تعرفه المعاجم اللغوية بأنه سوق الإبل والغناء لها, وواحدته (أحدية) أو (أحدوة).
وذكر الإخباريون والرواة، أن الحداء كان عند العرب قبل الغناء, انحدر إليهم وتوارثوه من جدهم الأكبر مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن إد, وأصله كما يروون أن مضر قد سقط عن بعيره في إحدى أسفاره فانكسرت يده فأخذ يتوجع: قائلاً: يا يداه يا يداه (أو) وايداه وايداه, وكان من أحسن الناس صوتاً فتجمعت الإبل حوله وطاب لها السير معه فاتخذه العرب الحداء برجز الشعر، وجعلوا كلامه أول الحداء, فقال حاديهم: (يا يداه يا يداه يا هاديا يا هاديا), فكان الحداء أول السماع والترجيع عند العرب ثم اشتق منه الغناء.
والثابت كما جاء في السنة النبوية عن مجاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي قوما فيهم حاد يحدو، فلما رأوا النبي - عليه الصلاة والسلام - سكت حاديهم، فقال - عليه السلام -: من القوم؟ فقالوا: من مضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن حاديكم لا يحدو؟ فقالوا: يا رسول الله إنا أول العرب حداءً، قال: ومم ذلك؟ قالوا: إن رجلاً منا غرب عن إبله في أيام الربيع فبعث غلاماً له - مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن إد - مع الإبل، فأبطأ الغلام فضربه بعصا على يده فانطلق الغلام وهو يقول: يا يداه، فتحركت الإبل لذلك ونشطت. فقال له: أمسك أمسك، فافتتح الناس الحداء.
وجاء في الأثر حديث عامر بن ربيعة قال: رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت يحدو، عليه خفان، فقال له عمر بن الخطاب: ما أدري أيهما أعجب حداؤك حول البيت أو طوافك في خفيك، فقال عبد الرحمن: قد فعلت هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَعِب ذلك عليَّ.
كيفية الحداء
الحداء عبارة عن ترديد لبيت من الشعر المغنى والمقفى، الذي ينتهي كلا شطريه بقافية واحدة، في حين أن لكل بيت معنى مختلفاً عن سابقه، ضمن حالة من التناغم والتآلف، لا تخلو من لمسة إبداعية وبصمة خاصة بصاحبها، فقد تناقله الحداة شفهياً من جيل إلى جيل، حتى بات أحد الموروثات الثقافية والتراثية عند البدو، يؤديه الحادي بصوت مرتفع حسب مهارته وتمكنه من مقدراته الصوتية، فيجود فيه بين المد والقصر، أي بين إشباع العُرّب وتقصيرها، بحسب ما يرتئي في الحالة الراهنة، أو بحسب المعنى المراد من القافية.
أنواع الحداء
- التدوينة: هي أصل أنواع الحداء كلها، وقد أجمعت العرب على أن مضر بن نزار بن معد هو أول من اوجد التدوينة التي هي في الوزن من بحر الرجز - بفتح الراء والجيم - ، كناية عن رجز البعير في مشيته، ففي حال كان مريضاً أو مقيداً تضطرب خطواته وتتقارب، فيرتجز في مشيته، وهناك اعتقاد سائد، في أن لهذه الدندنات أكبر الأثر في وضع الفراهيدي لمفاتيح علم العروض - الأوزان والبحور الشعرية - في اللغة العربية.
- الغناء الشعري: مع مرور الزمن تطور الحداء ودخلت فيه الأشعار والأشطر والأوزان والقوافي، ودخل في عباءة علم البيان والمعاني.
أبرز حُداة العرب
لا شك أن كل عربي مرتحل هو حاد، وقد اشتهر الكثيرون من العرب بأنهم حُداة مثل:
- سلام الحادي - الذي اشتهر بجمال حدائه وبات مضرباً للمثل في هذه المهارة، ويروي عنه أنه طلب ذات يوم من الخليفة العباسي المنصور أن يأمر جمّاليه بأن يقوموا بحجب الجمال عن موارد المياه، وتعطيشها مدة طويلة، ومن ثم تساق إلى موارد المياه، معللاً طلبه هذا في إبراز مقدرته من خلال حدائه للإبل على أن يجعلها ترفع رؤوسها معرضة عن شرب الماء على الرغم من عطشها الشديد، وحين نال موافقة المنصور على طلبه هذا بادر بصوته العذب يرنم للإبل بهذه الأبيات:
ألا يا بانة الوادي بشاطئ نهر بغداد
شجاني فيك صياح طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه ترنم رنة الشادي
إذا اسودت مثالثها فلا تذكر أخا الهادي
وإن جاءت بنغمتها نسينا نغمة الحادي
فعافت الإبل المياه واستأنست لحدائه وسط دهشة تملكت جميع الحاضرين، فأعجب المنصور بصنيعه وأغدق عليه العطايا.
ولقد حفلت البوادي العربية بحادي العيس (الجمَّال) لأن له قدرة على اقتياد الجمال عن طريق أغان يغنيها البداعون على ظهورها أو في مواسم خاصة كسباقات الهجن أو الرحلات البعيدة أو في مواسم جني الثمار.
كما لعب الحادي قديما دور الرسول بين المحبين، وحملوه أشواقهم ولوعة حزنهم وألمهم بسبب رحيل المحبوبة. وهذا ما جعل الشاعر الكميت بن زيد الأسدي يستعطف الحادي بجمالِ ركب عشيرة حبيبته متوسلاً إليه قائلاً:
يا حادي العيس عرَّج كي أودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
وحملوها وسارت في الدجي الإبل
وأرسلت من خلال الشق ناظرها
ترنو إلى ودمع العين ينهمل
إني على العهد لم أنكر مودتكم
يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
وختاماً: مما حكي عن تأثير الغناء على الإبل أن أميراً مر بشيخ من الأعراب فرأى عبداً مقيداً بالحديد، فقال الأمير: ما الذي جناه هذا العبد؟ فقال الشيخ اتبعني ثم أخذه إلى مراح الإبل فرآها منهكة لا تستطيع حراكاً، فقال للعبد: غنِّ لها فغنى فنهضت لساعتها متحمسة كأن لم يكن بها شيء, ثم أكمل الشيخ: هذا العبد أتى بها من مكان بعيد وهي تحمل أثقالاً وأخذ يغني لها حتى رأيناها قد ضاعفت سيرها فصارت إلى هذا الحال.