حظيت سورة يوسف - عليه السلام - باهتمام كبير من الباحثين والمتخصصين في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية، وقد اشتملت هذه السورة العظيمة على العمليات التربوية والاجتماعية السلبية والإيجابية، حيث انبرى لها الخبراء والدارسون (بحثاً وتفسيراً واستنباطاً وتطبيقاً) في علم الاجتماع التربوي، العلم الذي يشكل فرعاً حيوياً وميداناً خصباً من ميادين علم الاجتماع العام، ويعني علم الاجتماع التربوي: العلم الذي يهدف إلى الكشف عن العلاقات بين العمليات التربوية، وإبراز أصل العملية التربوية كظاهرة اجتماعية لها وظيفة أساسية في المجتمع.
ومن موضوعاته المهمة العمليات الاجتماعية التربوية.. وهي ارتباط الناس ببعضهم بعضاً عن طريق التفاعل فيما بينهم، هذا التفاعل يتم بطرق أو عمليات تؤُدى وتمارس في المجتمع ويطلق عليها مفهوم العمليات الاجتماعية، وهي عبارة عن أنماط سلوكية متكررة يقوم بها الأفراد، وظيفتها الحفاظ على النظام الاجتماعي واستمرار تماسكه، وللعمليات الاجتماعية ثلاثة أنواع وهي: (العمليات الاجتماعية المجمعة).. وتسمى العمليات الإيجابية أو الجاذبة لأنها تجذب الناس بعضهم إلى بعض وتكون ممارسة محببة بينهم مثل: التعاون والتكيف والالتزام والثقة والقيم الأخلاقية الفاضلة.. ثم (العمليات الاجتماعية الهلامية) ويقصد بها العمليات الاجتماعية التي يحكم عليها من حيث شدتها وحدتها وممارستها بطريقة مقبولة إلى حّد ما إذا ما مورست بطريقة مناسبة مثل المنافسة والتبرير والخضوع والانسحاب حسب طبيعة المواقف الاجتماعية. والنوع الثالث: (العمليات الاجتماعية المفرقة) أو الطاردة أو السلبية، وهي ممارسات اجتماعية غير محببة وسلوكيات غير فاضلة تسبب تنافر وابتعاد الناس عن بعضهم البعض مثل الغيبة والحسد والكذب والنفاق والنميمة والكراهية والخيانة وغيرها من الممارسات الاجتماعية الطاردة والسلوكيات المفرقة!.
ولاشك أن السلوك التربوي في قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - يمثل مرتكزاً أساسياً من المرتكزات الأخلاقية والاجتماعية التي تقوم عليها أحداث أحسن القصص في القرآن الكريم، حيث اشتملت هذه السورة على كثير من المعاني السلوكية والعمليات الاجتماعية المتنوعة والمبادئ والقيم.
في أحداث هذه القصة كان الصراع فيها صراعاً (أسرياً)..!! فسورة يوسف - عليه السلام - من أعظم السور التي تعالج الجوانب التربوية داخل الأسرة، فهي تتحدث عن نموذج واقعي لأسرة تتعرض كغيرها من الأُسر للمشكلات والتحاسد والتنافس والغيرة، كان بطل القصة مسيرة شاب بدأت بطفولة طموحة ومرت بتحديات ومنعطفات حسية ومعنوية، ووصلت إلى قمة الفلاح والنجاح والإصلاح بعد أن بدأت القصة بحلم وانتهت بتحقيق هذا الحلم..!!
ومن العمليات الاجتماعية الهادمة في (سورة يوسف) والتي ظهرت في حسد إخوته، فالحسد والغيرة هما الدافع الرئيس لتفجير أحداث القصة وتطوراتها على سنوات العمر التي تحكيها القصة. قال تعالى: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (8) سورة يوسف .ثم الكذب وهو أساس النفاق وسوء الأخلاق والوقوع في المحرمات. قال تعالى: (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (18) سورة يوسف. وحكاية أن الذئب أكله فهو أسلوب رخيص وعملية مكشوفة، والأكيد أن (الكاذب) مهما كان حاذقاً ومراوغاً سيظهر كذبه ولو بعد حين..!
ومن العمليات الاجتماعية السلبية (الخيانة) حيث مارس الأبناء مع أبيهم إعطاء الوعود الكاذبة، وحبك المؤامرة الخبيثة، في قوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (12) سورة يوسف. ليطمئن حينما يذهب يوسف - عليه السلام - معهم في نزهتهم البريّة للتخلص منه بعد أن شعروا أن أباهم يحبه أكثر منهم، ولكن كانت الخيانة مبيتة لا تصدر إلا من نفوس خبيثة وقلوب مريضة..!!
فبعد أن جلس معهم وقص عليهم القصة وهو أصغرهم وعلموا بأمر الرؤيا وتفاصيلها..!
هنا ثار الحقد في قلوبهم، والحسد في نفوسهم، وبالتالي أصبح الخلاص من يوسف - عليه السلام - أمراً لا مناص منه، فرموه في البئر بعد أن فاضلوا بين الأمرين أو الاقتراحين، في قوله تعالى: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أو اطْرَحُوهُ أرضا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) (9) سورة يوسف. والمقترح الثاني قوله تعالى: (قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) (10) سورة يوسف. وهذا المقترح كان يحمل نوعاً أقل عدواناً من القتل..! بعد أن كانت نيّة القتل راسخة في أذهان هؤلاء المتآمرين، وعندما حمله إخوته كانوا يضربونه، وهو يستغيث بهم واحداً واحداً، بعد أن تمكنت قمة (النزعة العدوانية) لدى هؤلاء الحسدة، فأنزلوه في ظلمة البئر ولما نزل قطعوا عنه حبالهم فبقى - عليه السلام - في حفظ الله ورعايته في صحراء شاسعة وفي (غيابة الجُب) وحيداً ليس معه إلا الله - عز وجل -، وبعد أن أنهوا عمليتهم الغادرة مارسوا أنواع الكذب ثم اصطنعوا عملية البكاء المفتعل، ثم اصطنعوا عملية تلطيخ القميص بالدم ولم يكن (ممزقاً)..!! فالذئب الذي أكله كان (ذكياً)..!! إذ جعله يخلع قميصه قبل أكله حتى يستفيد منه إخوته..!! طبعاً كانت عملية فاشلة وتخطيطاً ناقصاً فيه ثغره فضحتهم وعرف الأب ذلك، فقال النبي يعقوب - عليه السلام - هذا مكر دفعه إليكم نفوسكم الخبيثة..! وكل هذه العمليات الاجتماعية المدمرة تنم عن مرض نفسي وصراع داخلي وحقد دفين كان مسيطراً على نفوس ووجدان إخوته..!
وبالمقابل تظهر العمليات الاجتماعية الإيجابية في منهج حياة النبي يوسف - عليه السلام - الذي مـّر بمرحلة العبودية والفتن والسجن، وبعد أن مكَّنه الله وأصبح رجل دولة ووزير مالية قائماً على خزائن الأرض في مصر ولقب بعزيز مصر وهو المنصب الذي يشبه منصب «رئيس الوزراء»..!
كان الرجل المؤهل الكامل الذي يجمع الفكر والتطبيق، ونور الوحي والعلم معاً، وعلّمه الله الحكمة والإيمان فطبَّق المنهج الإسلامي الاقتصادي في مصر، كما طبَّق المنهج التربوي وعلَّم الناس الانضباط السلوكي والاجتماعي، وهذه القيم الأخلاقية لا تجتمع إلا في (نبي) أوتي ملكات القيادة وأخلاق النبوة الفاضلة. ومن هذه العمليات الاجتماعية الإيجابية عفوه عن إخوته الذين حاولوا قتله وتسببوا في سجنه وغيابه عن أبيه سنوات طويلة قيل (40 سنة)..!!
وبعد أن أصاب الناس القحط والمجاعة أتوه صاغرين ومنكسرين من أرض فلسطين بعد أن عمَّ الجوع والفقر كل وجه الأرض، قال تعالى: (وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) (58) سورة يوسف. مع ذلك لم ينتقم منهم رغم إساءتهم إليه ليضرب أفضل مثال للمصالحة والتسامح والعفو عند المقدرة، والجميل في هذا (التسامح اليوسفي) أنه احترم مشاعر إخوته رغم ما فعلوا بعد أن عفا عنهم في قوله تعالى: (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) (100) سورة يوسف. ولم يقل أخرجني من (الجُب) ويذكر حاله داخل ظلمة البئر، وذلك لتمام وكمال عفوه عن إخوته، ولم يذكر ذلك الذنب رغم مرارته وشناعته حتى لا يجرحهم ويخجلهم أمام أبيه..! وهذا من لطفه وحسن خطابه - عليه السلام -، ورقي أخلاق النبوة في فن احترام المشاعر..!
كما تظهر هذه القصة الجميلة في سياق علم الاجتماع التربوي «التماس الأعذار للآخرين» والتماس الأعذار خلق الأنبياء والعلماء والكبار - ورغم الأحداث التآمرية التي مرّ بها النبي يوسف - عليه السلام - في قصته مع إخوته.. التمس العذر لهم في لحظات الصفاء والتسامح والنقاء والنبل في قوله تعالى: (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (100) سورة يوسف، مبرراً أفعالهم بأنها نزغة شيطان حاولت إفساد رابطة الأخوة وهدم البناء الأسري..! لكنها تلاشت في قلب كبير بعد أن سجل - عليه السلام - تفاصيل الجريمة ضد الشيطان وبرَّأ إخوته..!!
فما أروعها من مروءة وشيم أخلاقية فضيلة - والأجمل قيم التواضع التي تجلت في شخصية النبي يوسف - عليه السلام - الذي لم يذكر المنصب أو الكنية أو اللقب.. والاكتفاء بذكر اسمه خالياً من أي صفة في قوله تعالى: (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي) (90) سورة يوسف.
هكذا علمنا منهج سيدنا يوسف التربوي النبوي قيمة التواضع وهضم النفس وخفض الجناح، وخاصة مع الأقارب، فقد قال يوسف لإخوته بعد أن عرفهم وعرُفوه: أنا يوسف وهذا أخي ولم يتعالى عليهم بمنصبه الرفيع ومكانته الاجتماعية العالية.. بل كان يرى - عليه السلام - أن الشرف في هذا الخلق الحميد (التواضع).. ومن تواضع لله رفعه.
** **
رؤية - خالد الدوس