د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
نؤمن جميعًا أن المستقبل لا يمكن أن يُهدى؛ بل هو إنجاز يُبنى على إستراتيجيات تصنعها العقول، ويتبع ذلك مسيرة تنفيذية تتصدرها منظومة متكاملة من النقد والتحليل، ولذلك يعلو الفكر النقدي على سدة ما يجب تعلمه في مؤسساتنا التعليمية، وإذا ما توفر ذلك في مسرد السياسات التعليمية وجوانبها؛ فإننا بتوفيق الله نتجاوز دوائر المُسَلَّمات، ونبتعد عن الأفكار السائدة ونتجاوز عادات التلقي والقبول دون حوار أو مناقشة، فدائمًا ما نحتاج إلى تحليل الآراء والمواقف ومحاكمتها؛ والتغيير الدائم دأب الحياة والنظر في حقائقها لا يكون إلا ممن يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها؛ والركود في التطلع للرقي أصعب من الخطأ.
وللضرورة في حساب الحياة أبعد الأثر؛ ومفهوم التطور لم يمارس دوره في إتمام أسبابها إلا على أساس الضرورة الاجتماعية الحافزة؛ ولقد كان إدراج مادة «التفكير الناقد» ضمن نطاقات التدريس في مناهج التعليم في بلادنا مما سوف يعزز -بمشيئة الله- الجوانب الذهنية للمتعلمين في مجتمعاتهم، وإن كنا نحلمُ بالقمم الشامخة فإننا نرجو من خلال الفكر الناقد أن نصحح مقاييسنا الفكرية؛ ولأن تلك الإضافة تتطلب دقة وملاحظة عالية، حتى تدعم وتسهل اكتساب مهارات تحليلية فريدة؛ فقد توجهت وزارة التعليم نحو التفكير الناقد كمؤسس للعقلية الوافرة؛ وبذلك تشجع على التفكير الحر والتفكير التحليلي والتركيبي والنقدي عند المتعلمين؛ ويلزم ذلك أن يراعى عند توصيف مادة مقرر التفكير الناقد مصفوفة المدى والتتابع في المقررات التدريسية الأخرى حتى يكون داعمًا لها ومتممًا كمواد الرياضيات والعلوم والقراءة، لأن التفكير الناقد لا يمكن فصله عن أي مقرر، وأن يرتكز تدريس مقرر التفكير الناقد على أمثلة وتطبيقات من المقررات الأخرى حتى تكون أكثر فاعلية، إضافة إلى النماذج المستقاة الأخرى. وتشكر وزارة التعليم على تلك العودة المجزية لغربلة السائد وتمحيصه، وتنقيح المعرفة وتنقيتها ليصبح التفكير الناقد هو المراجعة الدائمة الملازمة لعملية التعلم؛ ولذلك فهو خصيصة يجب أن تلزمها كل أنواع المعرفة المنتجة. ومن المؤكد أن الإنسان عندما يكون مدركًا لضعف الأساس الذي بنى عليه آراءه وأحكامه؛ مما يجعله منفتح العقل مستمعًا لكل الآراء؛ مصغيًا لكل الأفكار، ويبقى مستعدًا لتعديل آرائه، ومراجعة مواقفه متى ما حل ما يستوجب ذلك؛ وفي غياب الفكر النقدي فإن كل جيل يضيف أخطاء جديدة قد تحسب على المعرفة فتتراجع المخرجات!
وللتفكير النقدي وشاح قديم من تراثنا الإسلامي ضم إكبارًا للنقد وللتنوع وللصدق في تقويم الأشياء، فالمناخ آنذاك أُفسح لحمل مدارس علم الكلام وسواها، وكان لذلك سبق في صناعة النهضة الفكرية والعلمية التي شهدتها تلك العصور، وكان مما أنتج صنوفًا من الإبداع والاجتهاد فأثمرت تلك العصور معرفيًا؛ وحتمًا فإن التفكير النقدي قيمة تراثية عندما قاد لواءه فلاسفة الكلام والمنطقيون وعلماء اللغة؛ وهو أيضًا قيمة حديثة نأمل أن تبقى دائمًا ديباجة وثيرة للتعلم حيث تحتضن الموضوعات في مختبر العقل؛ فالعالم لم يصل إلى غايته ولم تكتمل الحكمة بعد، وما زال هناك زيادة لمستزيد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة النحل- الآية 8)، وعندما يحضر التفكير الناقد في كل طروحاتنا يحدث التغيير، ويظهر الاكتشاف وتحل بين المتعلمين روح المغامرات الإيجابية ويبرز النشاط العقلي الحر وتظهر المشاريع الفكرية التي تحظى بالاعتداد؛ كما أن الحاجة ظهرت ماسة لمراجعة دور المؤسسات التعليمية لحضور مجتمع المعلومات في ظروف موضوعية جديدة مما يعني أن يتصدر التفكير الناقد كل حراك تعليمي معرفي؛ واستيعاب ثورة المعلومات حتمًا يتطلب أساليب جديدة في التعلم، ولعل من المناسب ونحن نستقبل التفكير الناقد في حضورنا المدرسي أن يتم تأسيس مراكز لإثراء التفكير الناقد يتم فيها تشكيل المعرفة وإنتاجها بعد مرورها على مصانع العقول وحيازة النتائج المقنعة!