عبد الله سليمان الطليان
هناك العديد من الأشخاص إلى عهد ليس بالقريب صنفوا أو أطلق عليهم فلاسفة، الملاحظة التي سوف نبحر في شرحها هي غياب مفهوم الفلسفة بالمعنى الحقيقي عند هؤلاء، بل إنه يعتبر إسقاطاً نفسياً تجاه المجتمع متأثراً بحالة من عدم التكيّف والاستقرار في الواقع الأسري، ينشأ هذا من تفكك الأسرة وضياع الترابط فيما بينها، ولعل آرثر شوبنهاور خير مثال على ذلك الذي كانت أفكاره تشاؤمية إلى حد كبير وهذا بسبب ما مرّ عليه من أحداث في داخل أسرته، لقد اتسم والده بسلوك غير اجتماعي، فكان مصابًا بالقلق والاكتئاب، وبرزت أعراضهما بشدة في مراحل متأخرة من حياته، ولقد عانى شوبنهاور من أعراض تقلّب المزاج أيضًا منذ شبابه، واعترف مرارًا بأنه ورث المزاجيّة من والده وفي الواقع، تشير دلائل إلى حالات أمراض نفسية خطيرة في عائلة والد شوبنهاور.
كانت علاقته مع أمه بعد أن توفي والده متشنجة ومتوترة وصلت إلى حد العداوة والحقد، الذي أسفر في النهاية إلى قلة الاتصال فيما بينهما وصار يتم على أوقات متباعدة، لقد كانت الأم تعتبر نفسها علماً من أعلام الفكر والأدب في عصرها، وفي ذات مرة سخرت منه واستهزأت به أمام جمع من زوراها عندما نشر رسالته التي حصل بها على إجازة الدكتوراه في عام 1813م من جامعة برلين تحت عنوان (في الجذور الأربعة لمبدأ العلة الكافية) إن رسالتك هذه كما لو كانت كتاباً من الوصفات الطبية للمشتغلين بالعطارة، كانت تلك الواقعة مسك الختام في علاقته بأمه.
لقد اتسمت حياة شوبنهاور. بخليط من المتناقضات التي لا يقبلها العقل، فنجد أنه وهو المتشائم المفرط في تشاؤمه، اليأس من مصير الإنسان، القائل بخواء الوجود وعدم جدوى الحياة، الذي أودت أفكاره بالكثير ممن آمنوا بها إلى الانتحار، نجده شغوفاً بالحياة كل الشغف، متشبثاً بها أشد التشبث، لا يكاد يسمع إشاعة عن وباء حتى يهرب من (برلين) إلى (نابولي) فلا يستقر بها أياماً إلا وتبلغه أخبار بعض إصابات بين أهلها بمرض الجدري فيسرع بالهروب منها إلى (فيرونا) فلا يطيب له فيها مقام، إذ يركبه وسواس يلح عليه ويصور له أنه قد تعاطى سعوطاً مسموماً! بل إنه لا يطيق أن يجلس إلى حلاَّق يجري الموس على ذقنه، أو يدنيها من عنقه، وهو لا يتناول شراباً في أي مكان إلا من كوب يحمله في جيبه خشية العدوى، ثم نجده أيضاً وهو المندد بمن يسعون وراء المال أو يستهدفون الكسب المادي، مفرطاً في البخل، حريصاً كل الحرص على ماله، بل يبلغ من حرصه أن يتصور العالم كله متآمر عليه ليسلبه ذلك المال، فهو يخفي أسهمه وسنداته ووثائق أملاكه بين صفحات الكتب، ومع تقدّمه في العمر زاد بعداً عن الناس، وكرهاً لعشرتهم، وفظاظة في معاملتهم حتى ضاق به معاصروه، وانفضوا عنه، مجتنبين صحبته، متجاهلين نبوغه، معرضين عن فكره.
فهل بعد هذا الذي ذكرنا عن شوبنهاور وحياته أن نعتبره إنسان سوي ممكن أن يستفاد من أفكاره وآراءه الفلسفية؟ إن الإنسان المسلم على يقين أن قيمته في هذه الحياة قائمة على إرضاء الله عزَّ وجلَّ التي هي مصدر سعادته البعيدة عن روح التشاؤم.