«الجزيرة الثقافية» - علي القحطاني:
تقلد الزميل سعيد أحمد الدحيه الزهراني درجة الدكتوراه في فلسفة الاتصال الرقمي من كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود، عن رسالته (السلوك الاتصالي للنخب الثقافية السعودية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.. دراسة كيفية لعلاقة بيئة الاتصال الرقمي بتفاعلات النخب ومكانتها الاجتماعية).
جلسة المناقشة التي امتدت لما يقارب 3 ساعات حظيت بحضور مميز، وبمرافعة ثقافية وعلمية ثرية أدارها باقتدار سعادة المشرف على الرسالة أ. د. فهد العسكر، وكل من عضوي اللجنة؛ سمو الأمير أ. د. سعد آل سعود عميد كلية الإعلام والاتصال بالجامعة، ود. حمد الموسى أستاذ الإعلام المشارك.
جاءت رسالة الزهراني التي استندت إلى المنهجية الظاهراتية «الفنومنولوجية»، في 800 صفحة أسهم عبرها في تقديم تأصيل فلسفي لفكرة الاتصالية الرقمية وحضور النخب في الوسائط التشاركية وتبلور السلوك الاتصالي الرقمي مستحضرة اتساع الطبقة الرمزية عبر شبكات التواصل الاجتماعي ودخول مكون المشاهير ضمنها، ما أدى إلى تراجع دور النخب التقليدية.
رسالة الدكتور الزهراني جاءت في مقدمة منهجية وبابين، الباب الأول: الإطار النظري للدراسة وقد اعتمد بناؤه المسلك الفلسفي والنقدي والفكري، القائم على آلية الاسترشاد بتأصيلات التراث المعرفي ومن ثم التأويل الفكري بما يؤسس لمبحث الحضارة الرقمية التي أخذت الدراسة على عاتقها الإسهام في تشييد رؤاه وبُناه الفكرية والفلسفية، كما يشار أيضاً إلى ما أصلته وصنفته الدراسة حول التاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمع السعودي ضمن شبكة الإنترنت بدءاً بالمنتديات ووصولاً إلى شبكات التواصل الاجتماعي وذلك على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أيضاً يشار إلى (فلسفة الاتصالية الرقمية لدى فلوريدي) وهي المرجعية النظرية التي صممتها الدراسة بوصفها مرجعية فلسفية لبيئات الاتصال الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي.
أما الباب الثاني الخاص بالدراسة التطبيقية فتضمن عرضاً للإجراءات المنهجية للدراسة، ولعل أبرز الإضافات التي قدمتها الدراسة تتمثل في النموذج الذي صممته تحت اسم: (نموذج التحليل الشبكي لحسابات النخب على شبكة تويتر)، لتحقيق أهدافها وسعياً نحو إيجاد مؤشرات يمكن من خلالها تتبع السلوك الاتصالي لمستخدمي الشبكة من النخب وقراءته وتأويله، أيضاً استندت الدراسة وفق ما تم التأسيس له عبر الإطار النظري، على جملة من المفاهيم الرئيسة التي يتحقق عبرها قراءة خطاب الشخصية محل التحليل، بما يُعين على استجلاء سلوكها الاتصالي الرقمي، وهي: مفهوم الاستعداد (الهابيتوس)، ومفهوم العضوية، ومفهوم الذات الرقمية (الإنفورغ)، والمفهوم الإقناعي، والمفهوم المجالي.
وعلى ضوء عمليات التحليل والاستقراء عبر الدراسات الثلاث الفرعية للدراسة، رشح جملة من الأفكار والنتائج من بين أبرزها:
• شبكات التواصل الاجتماعي وبيئات الاتصالية الرقمية، تُعد نموذج (برادايم) حضاريًا جديدًا يقدم رؤية جديدة للكون وللحياة وللإنسان، له أنظمته، ورؤاه الفلسفية، والنظرية والمهنية، التي تأتي على نسق غير سابق، وهو نموذج (برادايم) ناسف لبنية الأنساق التقليدية السابقة.
• التنامي المتسارع عبر تقنيات الاتصال الشبكي لاسيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى تراجع المكون النخبوي التقليدي، وضعف تأثيره وحضوره في المجتمع السعودي بصورة ملحوظة، مع عدم تلاشيه تماماً مثلما يتردد من قبيل (موت النخب)، كما اتسع مكون النخب من حيث الكم والشرائح والمستويات والتخصصات، لدرجة ذاب عندها مفهوم النخبة ذاته بعد أن أصبحت النخب جماهير واسعة، وبالتالي فقدت النخبة فكرتها المحورية وهي فكرة القيادة أمام واقع الكثرة المتنامية.
• بروز فعل نخبوي جديد يعبر عنه الباحث بمفهوم (النخبة الموازية) عبر صيغ البنية التكنورقمية والسلوك الاتصالي المتضافر لدى الأفراد، بما يشكل في مجمله فعلاً نخبوياً خوارزمياً قوامه مرتكزان؛ سلوك الأفراد الاتصالي المتضافر بالتوالدية المطردة حيال قضية أو موقف أو اتجاه أو أحدث أو ذائقة ما بعينها، ونظام البنية التكنورقمية نفسه المرتكز على صيغ البرمجيات الخوارزمية وأنظمة الذكاء الاصطناعي.
• الحضارة الرقمية شهدت ولادة شكل نخبوي مضاد جديد، وهو أكثر تغولاً وأوسع شمولاً وبأدوات تأثير ونفوذ عابرة للأزمنة والأمكنة والثقافات والأجيال والمجالات، هو (نخبوية النظام الرقمي) ممثلة في شركات ومؤسسات تكنولوجيا المعلومات والاتصال بأنظمتها الخوارزمية اللوغارتيمة من جهة، وملاك تلك الشركات والمؤسسات من جهة أخرى، والحكومات التي تقع في إطارها تلك الشركات والمؤسسات وملاكها من جهة ثالثة، مشكِّلة نظاماً جديداً للهيمنة والنفوذ في بيئات الاتصال الرقمي وعوالم الحضارة الرقمية، بوصفها مركز قوة جديدًا يضاف لمنظومة مراكز القوى الفاعلة والمؤثرة في السياقات المحلية والدولية.
• عنيت الدراسة باستقراء المرجعيات الفكرية للنخب السعودية التي يفترض أن توجه السلوك الاتصالي حيث توزع أفراد العينة إلى فئتين؛ الفئة الأول تنتمي إلى التيار الفكري المستقل أو المحايد أو الفني غير المعني بالتصنيفات الفكرية أو تجاذباتها، أما الفئة الثانية فهي فئة التيارات الفكرية المتضادة ممثلة في التيار المحافظ من جهة، والتيار الليبرالي من جهة أخرى، وهما الفئتان اللتان يحضر تمثيلهما في المجتمع بنسبة أقل إلا أن صوتهما هو الأعلى، مع الإشارة إلى ميل الكفة إلى فئة التيار الليبرالي، لاسيما المعني بالهموم الوطنية، وهي نتيجة يؤولها الباحث بالاتساق المرحلي الذي تشهده المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظها الله - حيال تغليب صوت التسامح والانفتاح المتزن ومحاربة التشدد والتطرف، اللافت في هذا السياق يتمثل في حالة الاعتراف التي لم تكن مشهودة في الفترات السابقة حيال مصطلح (ليبرالي)، إلى جانب القبول بالتوصيف أو التصنيف بمصطلح (ليبرالي)..
• كشفت الدراسة عن بروز فئة التيار الرقموي أو المدرسة الرقموية، حيث لاحظ الباحث أن ثمة ما يُؤشر إلى تيار فكري جديد آخذ في التشكل والحضور والبروز بصورة لافتة، ولم يجد له تصنيفاً فكرياً مستقراً في التراث المعرفي التقليدي، ولهذا ولَّدت الاتصالية الرقمية التيار الفكري الجديد الخاص بها، وهو (التيار الرقموي) الذي يأتي بوصفه اتجاهاً فكرياً، وليس مهنياً أو تطبيقياً كما قد يتبادر إلى الذهن، حيث عبّر الباحث عنه بـ (التيار الرقموي) أي أن الرقموية اتجاه فكري تمثله المدرسة الرقمية التي تأتي عبر تجليات الحضارة الرقمية الجديدة ضمن نموذجها/براديامها الجديد.
• فيما يتعلق بمكون المشاهير والمؤثرين، وعلى الرغم من قلة الجهود التأصيلية لهما إلا أن الباحث يخلص إلى الآتي:
o المشاهير أفراد وتجميعات فردية لا رابطة أو كتلة أيديولوجية، ذات تأثير ظاهر في السلوك الاستهلاكي للجمهور من خلال المحتوى الترفيهي أو التسويقي، حيث لا يقدم أفراد هذا المكون أي محتوى جاد أو عميق، وسمة المشاهير تتمثل في عدم الثبات والتحول المستمر.
o المؤثرون نخب رقمية تنضوي تحت كتلة أيديلوجية وتباشر دوراً معرفياً ذا رسالة.
o ثمة اتجاه فكري يرى أن المستقبل سيشهد اندثار مصطلح النخب في مقابل ازدهار مصطلح المشاهير، أي أن ثمة انقلابًا في دلالة المصطلح، لأن مصطلح النخب في أصله مصطلح موروث من الحضارة التقليدية، وحين تفارق الأجيال التقليدية الحياة (الرقميون المهاجرون)، فستواصل الأجيال الشبكية (الرقميون الأصليون) حياتها ومراحلها وفقاً لمصطلح المشاهير الذي تولّد ضمن بيئتهم الرقمية.
• ضعف الاستثمار الرمزي الذي يعد رأس مال النخبوي القائدي، فمنشأ السلوك عائد إلى التجربة العامة والممارسة، والعناية بالاستثمار الرمزي تغيب عن سلوك معظم أفراد العينة، ما عدا مجموعة قليلة معظمها من النخب المنبتة التي تشكلت في بيئات الاتصال الرقمي، في حين يعاني معظم أفراد العينة من النخب الممتدة من الأمية الرقمية.
• فيما يتعلق بنظرية المثقف العضوي إحدى مرجعيات الدراسة الفلسفية.. يبرز مجموعة من الأفكار والنتائج:
* أولها: ثمة ملمح تطويري لنظرية المثقف العضوي حفّزته الاتصالية الرقمية، فحواه: (المرجعية العضوية المجالية الأدق للسلوك الاتصالي الرقمي)، أي أن المرجعية للتخصص الأدق وليس للتخصص العالم.
* ثانيها: تبرز فكرة تنادي بنحت مصطلح أكثر جدة للمثقف العضوي يلائم الاندماج الذي شهدته المجالات التخصصية، فحواه (المثقف العضوي الهجين) تبعاً للمجالات الهجينة التي أفرزتها البيئة الرقمية، حيث لم يعد بإمكان المتخصصين في المجالات المختلفة تجاهل ما أتاحته تقنيات الاتصال من إمكانات مكنتهم من تعزيز حضورهم، مثل التصاميم الهندسية التي تتم من خلال الشاشات الضوئية وبمعطيات تفوق الخيال.
* ثالثها: بروز مفهوم (المجموعات العضوية الرقمية) المتشكلة من المنتمين إلى مجالات تخصصية دقيقة بعينها ضمن مجال تخصصي جامع لها، حيث تعمل تلك المجموعات عبر بيئات الاتصال الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي على تفعيل الدور العضوي للمجالات الدقيقة كل على حدة، الأمر الذي ينعكس بالتالي على المجال التخصصي العام.
• عملت الدراسة ضمن سعيها لتقديم الإضافة إلى حقل أبحاث الاتصال الرقمي إلى محاولة عني الباحث باستجلاء مدى إيمان النخب بحرية الرأي التي أتاحتها الشبكات الاجتماعية، وقد تركز السؤال حول مدى استخدام النخب لتقنية الحظر (بلوك).. اللافت هو بروز اتجاه يرى أن مفهوم الحرية يأخذ شكلاً جديداً في بيئات الاتصال الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي، فحين تقوم بحظر مستخدم ما، فأنت لم تصادر حريته في التعبير والظهور، وإنما مارست حريتك الخاصة في إبعاد شخص غير مرغوب فيه عن مساحتك الرقمية الخاصة، في حين له كامل الحرية والقدرة على الظهور والتعبير من منبره وحسابه الشخصي، وبهذا يتشكل مفهوم الحرية بصورة مغايرة وجديدة وملفتة، يُحسب تحققها وتجسيدها بصورة لم تتجسد من خلالها في أيٍ من العصور الحضارية السابقة مثلما تجسدت في هذا العصر الحضاري الاتصالي الرقمي، ففي السابق كانت المنصات محدودة وحرية التعبير مرهونة بها فقط، أما اليوم وعبر بيئات الاتصال الرقمي فالحرية متاحة للجميع، ومسؤولية رعاية تلك الحرية ملقاة على عاتق الجميع من خلال كل فرد بعينه، وعلى هذا الأساس يذهب الباحث إلى أن الاتصالية الرقمية مكنت الحرية ومسؤولية الحرية من أن تكونا متاحتين معاً بصورة لم يشهدها التاريخ من قبل.
• فيما يتعلق بمدى قبول النخب السعودية لمبدأ استثمار النخبوي لحساباته على شبكات التواصل الاجتماعي لنشر الإعلانات يبرز ملمحين، الأول ينتمي لمرجعية قيمية تقليدية ترى خطورة ارتهان السلوك الاتصالي الرقمي لمُهدد الصورة الرمزية التي تعد رأس مال النخبوي، حين الزج بها في مجارف الاحتمالات عبر قبول مال إعلاني تسويقي تجاري، حيث عادة ما يرتبط بفرض الرؤية الخاصة التي تحقق أرباح المُعلن، ما سيؤدي إلى اختلال صورة النخبوي وخسارة المتابعين الذي يعدون الثروة الفعلية في الاتصالية الرقمية، أما الملحم الثاني فينتمي لمرجعية قيمية رقمية ترى أن الأجيال الشبكية لا ترى شائبة في إتاحة النخبوي حسابه عبر شبكات التواصل الاجتماعي للإعلان والتسويق التجاري مدفوع الثمن، وذلك استناداً إلى الفكرة الرقمية (الذات تحضر في بيئات الاتصال الرقمي بوصفها رقماً، والمحتوى ينشأ ضمن نظام رقمي، والتفاعل ينشأ عبر أرقام المتابعين ومرات الاستجابة، ونحوها) ما يؤسس لمرجعية رقمية تشكلت في أوساط مادية لا تحفل بالقيم المعنوية الرمزية، بالقدر الذي تقترب فيه من المعاني الفعلية الواقعية التي ترى النخبوي ذاتاً لها احتياجاتها المادية التي من الممكن أن يوفرها المال الإعلاني، كما أن النخبوي رقمياً لم يعد يقدم ترفاً بل أصبح يقدم خدمة، وهذه الخدمة تتطلب تكلفة إنتاج مما يحتم أن يكون ثمة عائد نظير تكاليف الإنتاج تلك.
• برز مفهوم الملل في أداء السلوك الاتصالي الرقمي لدى النخب عينة الدراسة.. وهو مفهوم يُحيل إلى ما يناقض المستقر لدى الذهنية العامة من حيث إدمان الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وفي هذا السياق يبرز ما يؤكد مفهوم الملل الذي تولّد عبر المقابلات المعمقة، حيث كشف نموذج التحليل الشبكي وفقاً لنتائج الدراسة التحليلية للبيانات، أن أكثر من نصف النخب عينة الدراسة قل نشاطهم الاتصالي عبر تويتر في السنوات التي تلت عام 2015م، مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما يؤكد ملل بعض النخب من استخدام تويتر بعد أن أمضت نحو خمسة أعوام من الحضور عبر الشبكة، مع التسليم بمسببات أخرى ربما تسهم دراسات لاحقة في إثرائها.