الثقافية - كتب:
قام الكتاب على افتراض أنّ العنف في المدوّنة محلّ البحث لا يتجلّى بوصفه عنفًا خالصًا، بل تحفّ به دلالات العزّة والقوّة المبجّلة، وبهذا المقتضى أضحى معنى يُتاق إليه، ويتنافس فيه القوم. وعلى ذلك انقسم هذا العمل إلى فصلين مدارهما صناعة المعنى (في حالة الذكورة)، واختطافه (في حالة الأنوثة).
ويكشف الدكتور الصغير عن منهجه في الكتاب بقوله: اتّجهت غاية العمل نحو الكشف عن أنساق العنف التي تضمرها لغة الأمثال وقصصها. فتناولتُ في الفصل الأوّل نسق (العصبيّة)، واستعرضتُ دوره في تحريك العنف وضمان استمراريّته. وكانت العتبة الأولى التي تشترطها العصبيّة لتحقّق وجودها وفاعليّتها هي إزاحة العقل، والنتيجة المتوقّعة لذلك انزلاقُ الجماعة المتعصّبة نحو مجتمع الغاب، ومن ثمّ تعلو رتبة حلول القوّة على حلول العقل، وهذا ما ناقشتُه تفصيلًا تحت عنوان (جماليّة العنف وحلول القوّة)، وحاولت التركيز فيه على الأمثال التي تبرز فيها نبرة الثناء أو الاعتراف بالمجد؛ سعيًا إلى الاقتراب من اشتباك العنف بنماذج القوم العليا، فمحّصتُ حمولة هذه الأمثال فألفيتُها منغمسة في العنف والاستبداد وقهر الآخرين، وسجّلتُ دور اللغة في هذا التخليد، ومداهنتها لهذه الأفعال بتسميتها بغير أسمائها، لا للتستُّر عليها وحسب، وإنّما لإضفاء جماليّة مخصوصة عليها باجتلاب ألفاظ محبّبة إلى النفوس للتدليل عليها، كما في المثل «أعزّ من كليب وائل»، بما تحمله دلالة العزّة من جماليّة، وما يحمله أفعل التفضيل من تفوّق، وقد ألقى ذلك بظلاله على نمذجة فعل العنف في الذهنيّة المتلقّية للأمثال.
تناول هذا الفصل أيضًا ما تقتضيه بنية العصبيّة من ثنائيّات حادّة بين المركز المنغلق على ذاته المتضخّمة، والهامش المنفيّ لمجرّد اختلافه. وانصرفت في المحور الأخير من هذا الفصل إلى تحسّس العنف المندسّ في غير مظانّه، فوقفتُ على الكرم الذي يصل إلى حدّ العنف على الذات والأسرة، وكذلك عنف الأفعال الآمرة التي لا تدع مساحة للتفكير في خيارات أخرى، كما أنني رصدتُ بعض ملامح تمدّد العنف إلى معاني الحياة السامية الأخرى، كالحب، والحكمة، والصداقة، وتغوّله لدلالاتها، وذلك بتأسيس عُدّتها اللغويّة على ألفاظ العنف، الأمر الذي يفضي إلى أنسنة ذلك العنف وتطبيعه.
أمّا الفصل الثاني من هذا العمل فخصّصته لبحث العنف واختطاف المعنى، وبيّنتُ من خلاله أنّ صناعة هُوية المرأة عبر الأمثال وقصصها كانت محكومة بنسق (الوأد) بمعناه العام القائم على الرّفض والرّغبة في الإفناء والإلغاء. وفي هذا الصدد عُنيتُ بمكاشفة التصوّرات التي تقدّمها الأمثال وقصصها عن المرأة، بغية الإمساك بالأسس التي انبنت عليها، ومناقشة بواعثها، وآثارها، ومساءلة دورها في صناعة شخصيّة المرأة الموؤودة/العار، ثمّ توجّهتُ نحو بحث الأفكار التي تمكّنت الثقافة عبرها من تسويغ الوأد، وبيّنتُ فيه أنّ صناعة المخيال الجنسي عن المرأة من أبرز المكونات التي استندت إليها الثقافة، ممثلة برموزها المتَّبعة، في ترسيخ هوية المرأة المريبة. وقاد الحفر في الأمثال وقصصها إلى الكشف عن نموذج المرأة الذي تؤمن به الجماعة، وهو ما أسميتُه بـ»النموذج الوَضَميّ»، وتحقّقَ تعميمُ هذا النموذج من خلال الاستعانة برموز الحكمة التي تتابعت في التنويع على الفكرة ذاتها، بحيث غدت من الكثرة والانتظام والحصانة في منزلة يصعب معها الانتباه إلى زيفها، أو التوجّه إليها بالمساءلة أو النقد، وكان من آثار ذلك المبالغة في التوجّس من المرأة، والتشكيك بها، وتشريع التدابير الرقابيّة والعقابيّة الرادعة لها.
وعرّجتُ في هذا الفصل أيضًا على الكيفيّة التي تمكّنت بها الثقافة من فرض تمثيلاتها على المرأة، وكسب إيمان المرأة بها أيضًا، وبيّنتُ أنّ ذلك تحقّق من خلال تشكيك المرأة بعقلها، وقدراتها الذهنيّة أوّلًا، واختصار إمكاناتها في جزء مخصوص من جسدها، وسلب القيمة منها بوصفها إنسانًا كامل الأهليّة.
وانشغلتُ أخيرًا بفحص آليّة عمل النسق تجاه النساء اللواتي تفوّقن في الخروج عن التمثيلات التي أملتها الثقافة، من خلال تسليط الضوء على الطريقة التي خُلِّد بها هذا التفوّق في الأمثال ومرويّاتها، وسعيتُ أوّلًا إلى الوقوف على النصوص القرآنيّة التي قدّمت الملكة بلقيس بصورتها القائدة المتعقّلة، ثمّ نظرتُ في بعض النصوص المفسّرة لها، وسلّطتُ الضوء على نزوعها نحو عزو هذا التفوّق إلى مُعينات خارجيّة، وما ذلك إلا بسبب ضغط المخيّلة الجمعيّة التي لم تكن لتسمح باستيعاب تفوّق المرأة.
ووقفتُ، أيضًا، على الأمثال التي تصم نساءً بأعينهن، وحاولتُ أن أعرض هذه الأمثال والمرويّات الحافّة بها على السير التي عُرفت بها أولئك النسوة، وقاد هذا التمحيص إلى إدراك ما للنسق من قوّة في معاقبة المارقات عليه، وملاحقته إياهن بالتنكيل والوصم، وهو وصم يتّفق مع ما وقر في مخيّلة الجماعة عن المرأة.