د. إبراهيم بن محمد الشتوي
على أن الموقع الذي وضع فيه نفسه ليس هو الملمح الوحيد الذي نستطيع أن نرد إليه الاختلاف في نقد الشعر الذي نجده في المآخذ، بل هناك ملمح آخر يتصل بفهم الشعر المنقود، وذلك فيما يظهر من قول الصاحب حول بيت المتنبي الآخر:
لا يحزن الله الأمير فإنني
لآخذ من أحواله بنصيب
إذ نجده يعلق على هذا البيت، بقوله: «ولا أدري لم لا يحزن الله الأمير إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق»، وكأنه أخذ «لا» هنا على أنها نافية، وكأنه ينفي أن يكون هناك حزن يقع على الأمير، والحق أن «لا» هنا ناهية، فهو يدعو للأمير بعدم الحزن، ويبين إثر ذلك أنه يهتم لحزن الأمير إلى الحد الذي يصيبه القلق لذلك.
ومما يمكن أن يعد من الذوق الحقل الفني الذي ينتمي إليه البيت، وذلك من مثل تعليق الصاحب على قول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
سبوح لها منها عليها شواهد
فالضمائر المتكررة هنا مع حروف الجر المتنوعة، أدت إلى سخرية الصاحب من أبي الطيب بتشبيه الشعر بخطاب الصوفية القائم على الغموض والرمز، بالرغم أن البيت يجمع ضروباً مما يعده البلاغيون منها، فالإيجاز واضح في البيت، وازدهار الإيقاع، وما يفصل بينه وبين شعر المتصوفة هو سهولة المعنى المقصود هنا، فالبيت يصف الفرس، ويريد أن يوجز في الوصف بالاعتماد على لغة إيقاعية جميلة.
لكن ما ذكره الصاحب له ملمح، وهو أن هذا البيت يمكن أن يستعمله المتصوفة في كلامهم عن الله عز وجل، وهذا ما يمنح البيت ثراء في الدلالة بناء على أن أبا الطيب يدمج أكثر من نوع شعري في وقت واحد، فهو يتحدث عن الفرس، ويستعمل الشعر الصوفي في الوصف، وهذا يرجعنا إلى القضية الأولى التي قلناها في بيت المتنبي في رثاء والدة سيف الدولة، حيث إن الأبيات تستخدم الغزل في المدح.
هذه الظاهرة تظهر لدى المتنبي في أكثر من موضع، خاصة في شعر الغزل، فشعر المتنبي في الغزل قد أخذ قدراً كبيراً من الخلاف بين النقاد في قيمته الأدبية، فذهب بعضهم إلى أنه نظم، وأنه أضعف شعره، وذهب آخرون إلى أنه فخر في المقام الأول، ولكن الحقيقة أن شعر الغزل لديه هو شعر غزل لكن موقعه فيه لا يقل عن موقع المحبوب إن كان يفوقه، ففي كل مرة يتحدث فيها عن جمال محبوبته أو شدته وله بها يختم القول بما يفيد أهميته الشديدة التي تجعله في موقع لا يختلف عنها أو يقل عنها، وهو ما جعل النقاد يعدونه في شعر الفخر لكن الحقيقة أنه ضرب من الشعر يمتزج فيه الفخر بالغزل، ولا أقول على طريقة النرجسيين إنه غزل بالذات لأن المقدار الذي يأخذ الفخر قليل أولاً ولأنه غزل جميل خاص.
وهو ما يؤكد القول بالطريقة الجديدة التي يختطها أبو الطيب وهي المزج بين الأنواع الشعرية، تلك الأنواع التي نستطيع أن نكتشف ملامحها في وصية أبي تمام للبحتري، وفيها اخترع ارتباط الغرض الشعري بالأسلوب اللغوي حين يقول: «وإن أردت التشبيب، فاجعل اللفظ رشيقاً والمعنى رقيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيد ذي أياد، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، وابن معالمه، وشرف مقامه... وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة...».
فأبو تمام يؤكد هنا على الفصل الفني بين الأغراض الشعرية، فالغزل له ما يناسبه من الألفاظ والمعاني والمديح كذلك، ولا ينبغي للشاعر الحاذق في رأيه أن يخلط بينهما أو أن يستعمل أسلوب أحدهما في الآخر، إلا أن أبا الطيب يخالف هذا المبدأ من مبادئ الشعرية عند أبي تمام ليختط طريقاً آخر قدداً يخلط فيه بين الأنواع، والمواقع ليظهر تركيبة فنية بديعة.
هذه التركيبة أو الطريقة هي التي رأى الصاحب أنها من المساوئ، وأنه ينبغي أن يعدل عنها لأن قوله في وصف الفرس يشبه قول أبي يزيد البسطامي، أو أن رثاءه لوالدة سيف الدولة يشبه قول أحدهم في أهله، أو في قول من قال: إن رثاء أبي الطيب لخولة أخت سيف الدولة يمتلئ بلواعج الحب مما لا يحتمله الرثاء، أو من قال: إن في غزل المتنبي من الفخر والاعتداد بالنفس ما يجعله غزلاً مصنوعاً لا تتوافر فيه صفات شعر الحب على طريقة أبي تمام.
أو في طريقة المخاطبة نفسها، فهي أخطاء في المعنى ولا صلة لها بالتعقيد اللفظي ولا بالتعقيد المعنوي، وإنما يدور الأمر في مجملها على السياق الذي وردت فيه وهو سياق متغير بناء على تغير الذوق، وهذا ما يجعل هذه «المساوئ» إن صح التعبير ليست مساوئ بالمعنى الحرفي.