أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
ثلاثة ألقاب علمية شاعت في ثقافتنا لثلاثة من المؤرخين السعوديين البارزين، وهي: (عَلّامة الجزيرة العربية) و(مؤرّخ الحجاز) ثم (مؤرّخ الحرمين) أولهم حمد الجاسر، رحمه الله، وثانيهم عاتق بن غيث البلادي، رحمه الله، وهما ملء العين والبصر، وثالثهم عبدالمحسن بن طما الأسلمي، وهو مؤرخ الحرمين وما بينهما من مواضع وآثار وتموّجات سكانية، ابن الديار العارف بسكانها. ولكلٍّ من هؤلاء المؤرخين الثلاثة شخصيته العلمية وسماته الفردانية، ولكنهم يلتقون في الصفات العامّة، ومن أبرزها:
1- العمق والأمانة والنزاهة في كتاباتهم.
2- ملكة التحليل والنقد والاستنباط.
3- الشجاعة العلميّة والقدرة على صناعة المحتوى الجديد.
4- دماثة الخلق وعفّة اللسان مع المخالفين.
وعلى الرغم من ذلك لم يسلموا من النقد والمشاغبات من بعض مخالفيهم، وكان الجاسر والبلادي يمضيان في طريقهما بثبات لا يلويانِ على شيء، وسار على نهجهما ابن طما، فكم واجه من تشغيب الرغبويين المتعصبين وتجنّيهم عليه، ولكنه لا يلتفت إليهم، وكأنّي به يستلهم قول زهير بن أبي سلمى المزني:
إذا أنت لم تُعرضْ عن الجهلِ والخَنَى
أصبتَ حليمًا أو أصابَكَ جاهلُ
وابن طما هو الدكتور عبدالمحسن بن فلاح بن طما الأسلمي الحربي، والده فلاح بن طما شيخ قبيلته، ثم انتقلت المشيخة في ابنه محمد شقيق عبدالمحسن.. وفي وادي حَجِر في ديار بني أسلم من حرب وُلد عبدالمحسن، ثم تلقّى تعليمه في جدة، ونال البكلوريوس والماجستير والدكتوراه في التاريخ من جامعة الملك عبدالعزيز، وله العديد من الكتب والأبحاث والمقالات في التاريخ والأنساب والبلدانيات، وله عناية بتاريخ الديار بين الحرمين وما فيها من مواضع وآثار وتنوعات سكانية، وله شعر فصيح حسن. ومن أبرز مؤلفاته في التاريخ والبلدانيات والسكّان:
1- وادي حجر (السائرة) دراسة جغرافية وتاريخية وأثرية، ط 1418هـ ثم أعيد طبعه مرتين.
2- التراث والشعر في وادي حجر، الطبعة الأولى 1428هـ
3- قبيلة بني أسلم في الجاهلية والإسلام، ط 2010م
4- المواقع التاريخية والأثرية والسياحية حول مدينة الملك عبدالله الاقتصادية برابغ ط 1431هـ
5- المراسلات والوثائقية لمشايخ بني أسلم من حرب، خلال العهد السعودي، في المدة من 1343هـ إلى 1433هـ
6- في حبّ الوطن، قصائد فصحى ط 1433هـ
7- إكليل القوافي، قصائد فصحى ط 1435هـ
8- لمحات من تاريخ الأوس والخزرج على ضوء وثيقة النبي صلى الله عليه وسلم لمجتمع المدينة المنورة ط 1436هـ
9- وقفات مع الهمداني وكتاب الإكليل ط 1437هـ
10- الساعدي حامل لواء النبي صلى الله عليه وسلم.
11- من أخبار أهل قباء: بنو عوف أول مستقبلي النبي صلى الله عليه وسلم في قباء: دراسة تاريخية. ط 1439هـ
12- الحق الأبلج في ذكر الجم الغفير من فروع الأوس والخزرج ط 1439هـ
13- من أخبار أهل مسجد الجمعة: بنو سالم ط 1441هـ
14- أودية الأكحل وخضرة ومغيسل ط 1442هـ
15- طريق الهجرة النبوية الشريفة ط 1443هـ
ولن أتحدث عن مضامين كتبه هذه، فلكل كتاب محتوى وقصة وكلام يطول، وسأكتفي بإيماءة إلى كتاب واحد، وهو (الحق الأبلج في ذكر الجمّ الغفير من فروع الأوس والخزرج) ففيه يثبت ابن طما أن قبائل الأنصار لم تندثر، وأن سنن الله الكونية التي تجري على الناس وعلى سائر القبائل الحجازية جرت على الأنصار، فما من قبيلة في الحجاز إلى ونرى لها بقية باقية أو نراها دخلت في قبيلة أكبر، ولم يحدثنا التاريخ أن قبائل الأنصار أبيدت بجاحة أو طاعون أو نازلة من السما اختصتهم دون غيرهم، فأنت تجدهم اليوم في جزيرة العرب وسائر الأقطار العربية التي هاجر بعضهم إليها، وتجدهم في المدينة المنورة وباديتها، وتجدهم في الوطن العربي كله من شرقه إلى غربه، كما تجد قبائل قريش وهذيل وسليم وجهينة والأزد وثقيف وهوازن، وقد أحسن ابن طما حين ناقش في هذا الكتاب الوجهين الواردين في فهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يشير إلى قلة الأنصار، وهو قوله عليه السلام: (الناس يكثرون وتقلّ الأنصار) وذكر أن للحديث ظاهرًا وباطنًا يدركه العقل ويصدّقه التاريخ والجغرافيا، فالأنصار ملء العين والبصر في الحجاز وجميع الأقطار العربية، وهم في التكاثر والانتشار في الديار كغيرهم من العرب مما يوجب صرف النظر عن المعنى المتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، وهذا ما جعل شرّاح الحديث يؤوّلون معناه بما يناسبه لا على وجهه الظاهر، ولذا وجّهه ابن حجر (ت 852هـ) وبدر الدين العيني (ت 855هـ) توجيهًا حسنًا يطابق الواقع، قال ابن حجر في الفتح 7/ 122 ح 3800: «وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فُرض في الأنصار من الكثرة، كالتناسل فُرض في كل طائفة من أولئك فهم أبدًا بالنسبة إلى غيرهم قليل»، وقال العيني في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 16/ 266: «قوله: (فإن النَّاس يكثرون وتقل الأنصار)؛ لأن الأنصار هم الذين سمعُوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونصروه وهذا أمر قد انقضى زمانه لا يلحقهم اللَّاحق ولا يدرك شأوهم السَّابق، وكلما مضى منهم أحد مضى من غير بدل، فيكثر غيرهم ويقلون»، واختار ابن طما هذا التوجيه، وقد أصاب. ومما يؤيد صحة ذلك أن عرّامًا السلمي رصد في القرن الثالث انتشار الأنصار في بادية الحجاز بعد الخلافة الراشدة، ونقل عنه أبو عبيد البكري وياقوت الحموي وغيرهما، وقد أفردت المسألة ببحث سميته: (نهاية الإيجاز في إثباسُكنى الأنصار في بادية الحجاز).
وفي خاتمة هذا المقال أقول: إن الباحثين في التاريخ والبلدانيات والأنساب اثنان، الأول: باحث تنويري ناقد قادر على إعادة قراءة التاريخ وصناعة المعرفة، والثاني: مقلقل معنعن يردّد ما قيل على علاته ويتمسك به، ولا يكاد يدرك ما فيه من أوهام، ولا يدرك فجوات التاريخ، وما أكثرها، فينبغي للمؤرخ الحق أن يدرك أنّ المفقود أو المسكوت عنه في التاريخ القديم كثير، وأن ما جاء في المصادر من تاريخنا الاجتماعي وتموّجات القبائل في جزيرة العرب هو الأقل، ومع ذلك لا يسلم ما في المصادر على قلته من الهوى والخطأ والوهم والتعارض، فحريٌّ بالباحث الواعي أن يستعين بالقرائن والأدلة والآثار والكشوف العلمية الحديثة، وإنّ يعلم أن في الأخذ بروايات بعض النسّابين القدماء أو المتأخرين والتسليم بها على عِلّاتها دون تمحيص ونقد مجازفةً تنافي أدبيات البحث العلمي.