د.علي زعلة
يعدّ النص بنيةً دلاليةً تنتجها ذات فردية أو جماعية ضمن بنية نصية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة، فيتقاطع مع نصوص أخرى في علاقة جدلية تقوم على أساس التفاعل والهدم والبناء، داخل سياقات ثقافية واجتماعية، هي التي تحدده وتؤطره (يقطين) ومن هنا فإن النص الروائي يتصل بالخطابات الأخرى في التفاعل الثقافي، وينفصل عنها بما هو نص تخييلي غير مرجعي، ينسج عالماً متخيلاً ممكناً وإن استقى مادته وكائناته من المرجع، مشكِّلا –بذاته- مرجعية نصية تخييلية غير متحققة خارج النص الذي تتحرك فيه، يحكمها مبدأ إمكان التحقق واحتماله الذي يفضي إلى تشييد مرجعية تخييلية، يبني فيها النص عالمه بوصفه موضوعاً دلالياً وجمالياً ومساحة خصوصية للواقع والتاريخ يستحيل التطابق التام بينهما. (تمارة).
يُنظر إلى الرواية على أنها الديوان الجديد للعرب وللعالم، «لا لأنها حلت مكان الشعر أو قللت من قيمته وحدّت من جاذبيته، بل لأنها الفن الأقدر على التعبير عن الواقع وتحولاته والحوار مع مختلف الخطابات السائدة في المجتمع والمؤثرة في علاقاته، وتحتلّ الرواية منزلة خاصة بين الأجناس الأدبية في الأدب العربي الحديث، بقدرتها التي تفوق الأجناس الأخرى على تمثيل المرجعيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية، متجاوزةً فعل التمثيل إلى أن صارت «من المرويات الكبرى التي تسهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم لقدرتها على تشكيل التصورات العامة عن الشعوب والحقب التاريخية، والتحولات الثقافية للمجتمعات... بما في ذلك منظومة القيم العامة والذوق الأدبي السائد، والتصورات الجماعية عن الذات والآخر» (عبد الله إبراهيم).
تحتفي النظريات النقدية الحديثة بالقارئ، وتعد دوره محورياً ومصدراً لإنتاج الدلالة وشريكا في تشكيل المعنى، ضمن السياقات التي يمكن «بناؤها مع توالي القراءات وتنوعها، وهذه السياقات ذاتها هي فرضية للقراءة، تتعدد بتعدد القراء وتوالي القراءات، وسياقاتها وفق تصور عام، يرى النص السردي منتجاً إنسانياً، يستعيد على هيئةٍ رمزيةٍ مجموع العوالم التي يطلق عليها في الأدبيات السردية (العوالم الممكنة) التي لا يمكن النظر إليها بوصفها استعادةً مطابقة للواقع، بل هي بناء ثقافي في المقام الأول، حيث تُبنى منفصلة عن الواقع ومستندة إليه في الآن ذاته.
وحين النظر إلى تمثيلات الآخر الاجتماعي ودلالاته في الرواية السعودية فإنه يجدر الإلماحُ إلى التحولات التي مرت بالمجتمع الذي تنزَّل ذاك الخطابُ الروائي ضمن خطاباته المتعددة، وإلقاء نظرة على المجتمع وقيمه ومراحله وتحولات بنيته الاجتماعية، والمؤثرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي أثّرت في عمق الوعي الاجتماعي الجمعي.
ولعل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل –رحمه الله- كان السبب الأقوى والأعمق تأثيراً في التحول الاجتماعي الكبير لإنسان الجزيرة العربية، من البداوة إلى الحضارة، ومن مفهوم القبيلة إلى قيم الدولة، ومن التخلف إلى الحداثة والعصرية.
لقد شكّل قيام الدولة السعودية واحدة من أكبر تجارب التحديث الناجحة في العالم المعاصر، بمفهوم التحديث الذي يرتبط بجملة من السيرورات والآليات التي تعمل على تنمية البلدان، وتيسير انتقالها من بنيات اجتماعية تقليدية، وعلاقات تعيد إنتاج سلطات الماضي إلى مجتمعات ديمقراطية حديثة وعقلانية. لقد نجح توحيد المملكة نجاحاً غير مسبوق في تحقيق التحديث والإصلاح الاجتماعي، ونقْل المجتمع السعودي إلى مجتمع حديث. ويربط الباحثون ذلك التحديث بعوامل انتشار التعليم والتطوير السياسي والإداري، وانتشار وسائل الاتصال الجماهيري، كالإذاعة والتلفزيون والصحافة وشبكة الإنترنت... وغير ذلك من العوامل.
ليست التحولات الاجتماعية في السعودية –ولا في سواها- قرارات تتحول بموجبها المجتمعات بين عشية وضحاها، بل إنها عمليات متشعبة، تنتج عنها ثنائيات وضديات، وتوترات كبرى، إذ يمثل التحديث صدمةً، بل اهتزازاً عنيفاً أحياناً في كثير من البنى الاجتماعية المتوارثة، حيث تداهمُ منظومةُ القيم الحديثة كافةَ مستويات المنظومة الاجتماعية التقليدية وتهزّها، لكن القيم التقليدية لا تموت ولا تندثر، بل تبحث عن شكل جديد لتحيا، وتنمو من جديد بين أجيال المجتمع وأطيافه، فالأمر هنا لا يتعلق بقيمٍ تطرد أخرى – كما يرى محمد سبيلا- بل جملة من القيم تدخل في تفاعل وتنافس واستعمال متبادل مع نقائضها، فتحتلها جزئياً أو تسلبها بعضَ إشعاعها أو فعاليتها أو ديمومتها، أو تتكيف معها أو تتدثر بها وتستعملها؛ إمّا لتحيا أو لتفرض عليها هيمنتَها.
ضمن هذه التوتّرات والثنائيات الاجتماعية تتلاقى قيم الذات القارّة المتوارثة مع قيم الآخر الخارجي الدخيل، أو الآخر الداخليّ المتحوّل؛ الذي وُجِد بفعل عمليات التحديث متعددةِ الاتجاهات والمستويات. ولعلنا نحاول تتبع بعض ملامح ذاك التلاقي بين الذات والآخر الاجتماعيّ، في المقالين القادمين بحول الله.