د.إبراهيم بن منصور التركي
جاء البحث في إعجاز القرآن كما يذكر جمهرة من العلماء ردّاً على الطاعنين في الإسلام والقرآن، وفي هذا يؤكد الباقلاني أن نشأة البحث في إعجاز القرآن إنما جاءت للرد على الطاعنين في القرآن، كما يؤكد كثير من الباحثين أن موضوع معجزات الأنبياء وإثبات دلائل النبوة هو واحد من الموضوعات التي انشغل بها علم الكلام الذي يقوم على الاحتجاج للعقائد الإسلامية والدفاع عنها ونقد الشبهات حولها، فهذا العلم يتناول الألوهية والنبوة والإمامة والمعاد، والمقصود بالنبوة هو معجزات الأنبياء.
ويؤكد هذا محمود شاكر في رصده التاريخي لقصة الإعجاز القرآني، حيث يشير إلى أن هذا البحث قد ظهر في منتصف القرن الثاني بجهود باحثي علم الكلام، في حومة جدال مرّ وخصومة مستعرة. إذ بعدما ظهرت فئة (من الزنادقة المشاغبين المجادلين الطاعنين في النبوة وفي القرآن...احتدم الجدال والنظر والمحاورة والخلاف والرد والدفع بين هؤلاء المتكلمين أنفسهم، وبينهم وبين المشاغبين الطاعنين في النبوة والقرآن، وبينهم جميعا وبين أهل الملل والنحل من اليهود والنصارى والبراهمة وغيرهم من الطوائف).
ومثلما كان صنيع الطاعنين في القرآن سبباً في بحث إعجاز القرآن، فلعلّ وجود الشعوبيين الذين يقللون من قدر العرب وينتقصون من قيمتهم ولغتهم وثقافتهم آنذاك سبب في اختيار وجه لغوي، ليكون هو وجه الإعجاز الأثير عند كثيرٍ من باحثي الإعجاز القرآني، حسبما يذكر الخطابي الذي يقول: (وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر). وليس سراً أن مِن أوائل مَن قال بالإعجاز البلاغي هو عدو الشعوبية ونصير العروبة الأول أبا عثمان الجاحظ الذي يؤكد أن (دهر محمد عليه الصلاة والسلام كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان، ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به، فحين استحكمت لغتهم وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه).
هذا الربط بين القرآن وتفوق اللغة العربية يظهر أيضاً عند ابن قتيبة الذي يقدّم في كتابه (تأويل مشكل القرآن) الحديث عن فضل العرب واتساع لغتهم وتفوقها، مؤكداً في مقدمة كتابه أن سبب تأليف كتابه هو رغبته في ردّ الطعن الذي وجّه إلى لغة القرآن وأسلوبه، حيث يقول:
(وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله. ثم قضوا عليه بالتّناقض، والاستحالة، واللّحن، وفساد النّظم، والاختلاف .... فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البيّنة، وأكشف للناس ما يلبسون، فألّفتُ هذا الكتاب، جامعا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح).
إن كلام ابن قتيبة يدلّ على أمرين، الأول: وجود الطعن في القرآن آنذاك، والثاني: توجّه الطعن في زمن ابن قتيبة (بسبب الشعوبية) إلى لغة القرآن ونظمه وأسلوبه، وهو ما لم يكن موجوداً - كما يذكر- زمن نزول القرآن. ولهذا يؤلّف هو هذا الكتاب الذي يسعى إلى الرد فيه على ما أشكل من آي القرآن ولغته. وهذا يعني أنه بالإضافة إلى وجود توجّه يشكّك في الإسلام عبر الطعن بالقرآن، وُجِد أيضاً توجّه يطعن في العرب ولغتهم عبر انتقاد لغة القرآن وأسلوبه. في ظل هذا السياق الحضاري جاء الردّ العربيّ على هاتين التهمتين قويّاً، فالطعن في الإسلام والقرآن جُوبِه بالكشف عن وجوه إعجاز القرآن، والرد على الشعوبيين وأعداء العرب جُوبِه بجعل لغة القرآن وبلاغته هي وجه الإعجاز الأهم.
وبناءً على ما سبق فإنه يمكن القول إن مصطلحات (الإعجاز) و(المعجزة) و(التحدي) و(المعارضة) هي ثمرة تلك الجهود التي بذلها أولئك العلماء في اجتهادهم العقلي والعلمي، متأثّرين في ذلك بظروفهم التاريخية وسياقهم الحضاري الذي ظهر فيه الشعوبيون والطاعنون في القرآن.
** **
- القصيم