أ.د. عبدالله ثقفان
يبدو أن هندسة البرمجيات والأنظمة قد أثْرَت موهبة الشاعر آل الشيخ الشعرية، واتجه لهندسة الشعر بما في كلمة (هندسة) من تفاصيل يعرفها ذو الاختصاص، إذا استطاع أن يعالج موضوعاً تراثياً بلون شعري زاوج فيه بين الألوان الشعرية ودمجها بصورة تجعل القارئ يستسيغ هذا التعامل على الرغم من النثرية السائدة..
قلت ذلك وأنا أقرأ «معلّقة غرناطة»، وهي قراءة ليست الوحيدة لشعر هذا الشاعر، فقد قرأت له قصائد من الشعر المنثور حول الأندلس كقوله من قصيدة (غرناطة لي):
وأنا أهمس «غرناطة لي»
يصعد غيم من فمي
يصعد مني هكذا: غر.. نا.. طتي
(غينا) تسل الراء من روحي
(ونوناً) خرجت تنزف مني ألف الآه التي في خصرها
(طاء) تجر التاء أنثاها التي أعقد (يائي) حولها شالاً
إذا أمسكه تفلت (غرناطة) مني
بنما تحملها الريح بعيداً كوكباً فوق البراري
وقد ضمنها كتاب (المنفى) وهو أحد كتب أربعة مثلت (معلقة غرناطة)، ومن الشعر المرسل قرأت له في المجلة العربية ذات العدد (550) (غيبوبة حي ابن يقظان – مذأبة الليل الطويل)، فقد استطاع أن يعتمد المقطع الواحد الذي حوى عبارات «مشحونة بالانفعالات الخاصة».. أو كما قال د. شمص.
إنه وقبل القراءة للمعلقة، أقول: كنت أعتقد أنني الوحيد الذي سكنت الأندلس ذاته، حتى أكثر من الأساتذة الكبار أمثال: مكي وعباس وابن شريفه ومؤنس، وهيكل وعتيق وابن شيخة وبهجت وغيرهم من مجايليهم غير أني قد وجدت أن (زياد آل الشيخ) كان مفتوناً بالأندلس أكثر ممن ذكرت، إذ ذابت تلك الديار لتجري في شرايين دمه، فإذا هو يتمثلها ثم يصورها لنا في صورة أخرى غير ما عرفناه في التأليف الأكاديمي، إذ هندس الشعر ليتوزع على شرايينه التي تشربت بغرناطة كعاصمة أندلسية مثلت الكل في زمن الضياع، ولتكون تلك المدينة الرمز الوحيد عن الأندلس: (الديار والأهل).
غرناطة (المعلّقة):
أما غرناطة فهي عاصمة الدولة النصرية أو دولة بني نصر، وهي خاتمة عقد الأندلس الذي انفرط حتى انتهى بأسلاك شائكة لتحجز المسلمين بين أتونها فهم بين محبوس ومقتول ومطرود...
وأما المعلقة، فهي من الشعر المرسل أو شعر التفعيلة أو الشعر الحديث أو الشعر الحر، جاءت في أكثر من ثلاثين ومائة صفحة من القطع المتوسط، وقد قسمت على أربعة (كتب) كما أسماها:
كتاب المنفى
وكتاب الحرب
وكتاب الأسر
وكتاب الحصار
وفي صفحات متساوية تقريباً، وقد بدأها متحدِّثاً عن أبي (عبدالله الصغير) عندما سلَّم مفتاح غرناطة وقد أحاط به جنود قشتالة كحلقة حول عنقه، فخطب قائلاً:
اصنعوا قمراً من قناديل عمري وغنوا لهُ كلما مَرَّ في ماء نافورة
على أنه قد بدأ كل كتاب برأي أو بمقولة:
- ففي كتاب المنفى (898- 933هـ) استعان برأي بيدرو كامبومانس الذي قال فيه: «إن بدء تدهور صناعتنا يرجع إلى سنة 1609م حينما بدئ بنفي المورسكيين».
- وفي كتاب الحرب (884- 886هـ) استعان بمقولة قالها موسى الغساني (فارس قرطبة) التي قال فيها: «ليعلم ملك النصارى أن العربي قد وُلد للجواد والرمح..».
- وفي كتاب الأسر (884- 887 هـ)، استعان بمقولة لابن حزم الأندلسي التي قال فيها: «مقرب أعدائه قاتل نفسه..».
- وفي كتاب الحصار (895- 897 هـ)، استعان بمقولة قالها ابن حيان القرطبي: «لاشك عند أولي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع..».
إن الناظر لهذه المجموعة الشعرية يجد أن الشاعر لم يسكب شعراً فقط، بل دون تاريخاً، إذ تمثل المدينة وأهلها ومن فيها وكل محتوياتها بدءاً من الملك، وانتهاء بكل شيء يتعلق بها، وليظهر ذلك كله من خلال الكتب التي ذكرناها من قبل بادئاً إيّاها (بالمنفى) ومنهياً بكتاب (الحصار)...
إن الكتب كلها تمثل حركة داخل دائرة محاطة بأسلاك شائكة، إن خرج الناس عبرها تمزقت أشلاؤهم، ومن يسلم فهو بين جوع وعطش وطرد وقتل وسلب، وإن بقى داخل الدائرة، فهو محاصر من كل الجهات، ويعذب بكل أصناف العذاب، وكأنَّ آل الشيخ قد قرأ التاريخ بكل صفحاته ليمثل لنا هذه الحالة التي مَرَّت بها المدينة وأهلها وما حصل لهم قبل الاستسلام..
ملحوظات:
- أورد طارق بن زياد ليكون عصره وهو (عصر الفتوحات والانتصارات) ضد (عصر الهزيمة أو الهزائم) أيام ابن الأحمر، وعصرهم ا يختلفان كلية بل هما متضادان ولا موازنة بين هذا وذاك، فعصر (ابن الأحمر) هو عصر تكالب الأعداء حوله من كل جانب، فقد احاطوا به (إحاطة السوار بالمعصم)، وكان لهم صوت مرتفع وقوي، في حين أن المسلمين في هذا الوقت قد ضعفوا، لضعف المقاومة وقلة المدد..، وبالتالي لا معين لهم.
- قدَّم كتاب (المنفى) على كتاب (الحرب) ومن المعلوم أن الحروب والفتن قد بدأت قبل مسألة المنفى؛ ولذلك فمكانه في الأخير.
- استشهد بأقوال أدباء مثل (ابن حيان وابن حزم)، وقد عاشا في عصر مختلف عن عصر (ابن الأحمر)، حيث لكل عصر واقعة وحياته.
- أسماها (بكتب)، والواقع ليست كتباً، إنما هي شهادات ولذلك فالأولى حذف هذه الكلمة والاكتفاء بالعنوانات (الحرب، المنفى،...).
- أورد كلمات من مثل: المغرب العربي.
قال: (وكل مدينة في المغرب العربي تمسك ثوبه وتشده..)
والواقع لم يكن هذا الاسم يطلق على البلدان في تلك المرحلة، بل كان يطلق عليها (خاصة بلاد المغرب الأرض المقابلة، أو أرض العدوة، وأما تونس والجزائر، فكان يطلق عليهما مع مرطانية (أفريقية) وقد ورد هذا ص 11 من المعلقة..
وبعد؛ فتلك قراءة عجلى دفعني لها حُبّ الأندلس وغرناطة منها، كما دفعني لها إعجابي بحب هذا الشاعر بالأندلس وبالذات غرناطة وملكها (ابن الأحمر)...