لم يترك أبي فرصةً لليُتم أن يمرّ ببؤسه على سحناتنا نحن أبناءه الصغار، ولا أن ينهش شيئاً من ملامحنا، ولا أعلم أي خبيئة بين أبي وبين الله ليمنّ عليه بـ(أمنا حصة) التي تزوجها بعد أن توفيت أمي.
استيقظتُ صبيحة اليوم الذي في ليلته تزوج أبي بأمي حصة، وجدت امرأة أعرفها، مع أنني لم ألتقِ بها من قبل إطلاقاً، أقبلتُ عليها كما أُقبل على أمي واستقبلتني كما تستقبلني أمي: هلا بولدي!
لم نحتج إلى غير سويعات قليلة حتى وجدنا يوسفَ أخي الأصغر ذا السنوات الست يرتمي في حضنها!
وما هي إلا أيام حتى كنا نحن الأربعة الصغار نتقاسم حضنها، ما بين واضع رأسها على صدرها، أو متوسد فخذها...، وهي تحجّي علينا (تقصّ علينا قصة)، كان في صوتها صوتُ أمي وهي (تحجّي) علينا قصة (أم سبع كذبات) و(العنز والذيب).. أمنا حصة كان لسانها يحكي، ويدها اليمنى تهدهد الصبي يوسف، ويدها اليسرى تداعب شعر الصبي عبدالرحمن، ثم تنقل يدها لتمسح صدري، وتسكب بيدها الأخرى على وجه عبدالله دفء الأمومة.. ما أعدلها وهي توزع حنانها! وكان لدفء مشاعرها وحنانها على هؤلاء الصغار فعل الإكسير المنوِّم، فلا أحد منا يتذكر نهاية أي قصة بدأَتْـها؛ لأن شعورنا بالأمان والحنان يجعلنا نستغرق في النوم.
تلك المرأة الصالحة لا أذكر أنه مرّ بنا وقتٌ لصلاة مفروضة دون أن تذكّرنا بالصلاة وتحضّنا عليها وهي تحفّنا بدعواتها بالصلاح، خاصة صلاة الفجر: يا الله يا عييّلي الله يصلحكم استعينوا بالله!
أمنا حصة كانت تلحّ على أخواتي أن يقضين مدة النفاس عندها، ولك أن تتصور البيت وفيه امرأة نفساء ومعها أطفالها والزائرات يتقاطرن باستمرار، ومع هذا كان هدوؤها يغطي على ضجيج الصغار، وكانت كمية بشاشتها أكثر مما يحتاج إليه الضيوف!
في المرحلة الثانوية، مقررات المعهد العلمي الذي أدرس فيه تتطلب مذاكرة مستمرة، وفي الشتاء القارس كانت أمنا حصة توقظني الساعة الثانية ليلاً لكي أذاكر.. لكنها قبل إيقاظي تشعل المدفئة وتصنع لي الحليب بالزنجبيل حتى إذا استيقظت وجدت المكان دافئاً والحليب جاهزاً، ولا شيء في هدوء الليل يقطع عليّ كسلي إلا إطلالاتها عليّ كل حين لتتأكد من أنني مستيقظ لم يغلبني النعاس، تُطل فأسمع دعواتها بلهجتها القصيمية: بعدي وليدي.. يا الله إنه توفّقُه وتعينُه.
ومع كثرة ما تشتكي أمنا حصة من أمراض فإنها تتعالى على أوجاعها لئلا تفارق الابتسامة ثغرها، بل وأكثر من ذلك.
وحين تهيأ لي في المرحلة الجامعية أن أجري بعض عمليات التجميل على إثر حادث أصابني وأنا صغير (عمليات اليوم الواحد) فقد كانت تهاتفني قبل العملية التي لا تحتاج إلى غير التخدير الموضعي، تهاتفني لتصبرني وتبكي إشفاقاً عليّ!
وحين رحل أبي -رحمه الله- لم ننقطع عن أمنا حصة، بل إنها وهي الحريصة على أن تصوم شهر رمضان كله في مكة، تتعمد أن تؤجل رحلتها إلى ثاني أيام رمضان لنجتمع في بيتها على الإفطار في أول أيام رمضان؛ لكيلا تنقطع عادتنا على إفطار اليوم الأول في بيت أبي، فكأن أبانا لم يرحل، وكأن أمنا لم ترحل!
صحيح أن علاقتها بنا ليست بالإنجاب، لكنها بالنجابة.
** **
- د. سعود بن سليمان اليوسف