مرحباً بكم معاشر القرَّاء الأكارم أهلاً وسهلاً..
في فسحةِ مجلسه ورحبةِ مرتفقه ومعمورِ نديِّه جالست أخانا الفاضل السَّريَّ اللغويَّ العزيز أبا عبد الله د. فهيد بن عبد الله القحطانيَّ، أحد أعضاء هيئة التَّدريس في قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة بجامعة الإمام محمَّد بن سعودٍ الإسلاميَّة، ولي معه جلسات عديدة مفيدة أعدُّها من مغتبطات هذه الحياة، وأبو عبد الله من كرام الرِّجال، سخيٌّ وفيٌّ، طلق المحيَّا، حسن البشر، يتلقَّاك بالبشاشة والكرم، ولا يفتر من الدَّعوة إلى مجلسه الزِّاخر بالكرم والكرامة، ويستضيف في بيته العامر بالمجد والسُّؤدد الكثير من رجالات الفضل والخير والعلم، وأحسب أنَّ بيته مزوراً لأغلب أعضاء قسمنا قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة أشياخاً له وأساتذة زملاء.
وفي أحد تلك المجالس المباركات جاذبْنَا حديثَ الكتاب كتاب سيبويه، وعبقريَّة التَّأليف فيه، وتمكُّن مصنِّفه من الإحاطة والشُّمول، وكذا عقابيل نصِّ الكتاب ونسخته الأولى، وأنَّ الكتاب وجِد بعد وفاة سيبويه وجادة، وجاذبنا حديث وجادة الكتاب فانجذب حديث ذو صلةٍ بالكتاب، وهو حديثٌ عن خبر عبارةٍ جاءت في كتاب سيبويه هي قولة: (ما أغفله عنك شيئاً!) وعن خُبرها فتنازعناه مطارح قول، ومنازع نظر، وتقليب محتملات.
وحينما استطال الكلام وأصبح ذا ذيولٍ أشار عليَّ شورَ من طبَّ لمن حبَّ- وهو صاحب شورٍ أثيرٍ، وذو رأيٍ سديدٍ- أن أنزع من نفسي جهداً لأُنهض هذه القولة ببحثٍ يترسَّمُها دراسةَ أصلٍ وكشفاً عن حقيقة حالٍ، ومفاتشة تحتويها أحكاماً وآراءً، فقلَّبتُ النَّظر في رأيه وقولِهِ؛ فرأيتُ رأيه هو الرَّأي، وقوله نعم القول! فأجهدت نفسي في رسم خطَّةٍ صالحةٍ في معالجة القولة ومدارج النَّظر فيها ومعارجه، وصحَّ الرَّأي ونضج الأمر واستوى بحمد الله بحثاً منشوراً في مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة للُّغة العربيَّة وآدابها (العدد:5، ج: 1، مايو/ أغسطس 2022م).
وهذه القولة لها خبرٌ سالف ولاحق، فسالف خبر هذه القولة وماضيه أنَّ من عادتي الحرص على حضور مناقشات الرَّسائل العلميَّة الَّتي تُعقد في كلِّيَّات اللغة العربيَّة في أيِّ جامعةٍ يتيسَّر لي ذلك، إذ لا يعدم الحاضر من فائدةٍ يفيدها تكون له بها عائدة، وكان ممَّا حضرته مناقشة رسالةٍ عالِميَّة (ماجستير) في النَّحو بجامعة الإمام محمَّد بن سعودٍ الإسلاميَّة، وإبَّان المناقشة ذكر أحد المناقِشَين أنَّ قولة: (ما أغفله عنك شيئاً) مكونةٌ من جملتين، وأنَّه قرأ قديماً لأحد المستشرقين أنَّه نصَّ على أنَّ فيها تصحيفاً، ولم يذكر مصدراً لما وقف عليه ولا موقعاً يورد عليه، ولم يذكر اسم المستشرق.
وقد قدح في فكري ما ذكره فانقدح ذهني في معاينة القولة وسياقها، لعلِّي أن أظفر بشيءٍ أو أجد فيها للقول مجالاً؛ فكان ذلك بذرة للبحث المشار به المذكور خبره آنفاً، والأستاذ المناقِش- أسعده الله- لم يحكم على قالة المستشرق بخفضٍ ولا برفعٍ، ولا بصوابٍ ولا دونه، بل ساق قوله عَرَضاً وإدراجاً لحديثٍ إبَّان المناقشة، فلم يورد قالة المستشرق لمناقشتها ولا لمفاتشتها أو الرد عليها، ولا رغب إلى الباحث المناقَش في أمرٍ من ذلك - ذا عتيق خبرها.
ولمَّا أن راجعتُ المسألة وما ذكره النَّحويُّون فيها وجدت أنَّ فيها اختلافاً لا في معناه فحسب، بل في مبناها وإعرابها فدفعت نفسي قُدُماً إليها، وهم إذ اختلفوا لم يصطلموا جرَّاها، وبعد رأي الزَّميل العزيز أبي عبد الله د. فهيد حزمت أمري وعزمت من نفسي أن أدلي بدلوي مع الدِّلاء، فاستظهر واستنظر ما يُخرج الماتح من المائح، فعساني أن آتيَ بشيءٍ مفيدٍ، وإن كانت الأخرى فحسبي أن قد حاولتُ.
إنَّ حديث (ما أغفله عنك شيئاً) حديث ذو شعبٍ ومثان، هي عبارة نقلها سيبويه في كتابه ينسُبها إلى العرب، جُهلت فلم يُعلم أهي مثل أو كالمثل أم حكمة أو هي كالحكمة، أم هي من شارد العبارات، أو هي قولة من قالات العرب الطيَّارة السَّيَّارة؟ ألها قصة وحكاية اختطفت منها اختطافاً، فبقيت ونسِي أصلها والقصِّة؟!
وقد جاء أمر هذه القولة من العرب في اختزالها على مدرجة كلامهم، فمن سَنَنهم الإغماض والرَّمز والتَّلغيز إن ثَمَّ خطبٌ أو دافع، أو كان هناك مانع من الإيضاح والإبانة، فحياتهم ظاهرة مكشوفة في صحراء جزيرتهم، ولقاءتهم لقاءات مفتوحة كبسيط صحرائهم، فإذا كان الوضع لا يحتمل التَّصريح وظاهر البيان يلمِّحون إليه تلميحاً ويرمزون به رمزاً؛ فيأتي كلامهم كالألغاز مضمراً في زِيِّ مظهرٍ، محذوفاً في نسج مذكور= فيكون كلامهم عارضه فيه ظاهر مُربك لتوريكه على حذوفٍ كثيرة؛ يدركه البصير منهم، ويجهله الدَّخيل عليهم وإن كان بينهم، فالدَّخيل يقرؤه قراءةً ظاهرة حسب ما ذكر؛ أي: قراءة ظاهريَّة، والخبير أو مَن كان من بطانتهم يدرك المغزى والمراد= هذا من عجيب تصرُّفات هم، ودقيق فعالهم، وعبقريَّة صنعهم، ولطيف أخذهم، فلله درُّهم ودرُّ لغتهم!
هذا، ومن فُواق خبر حديث القولة أيضاً وجديده أنَّه لمَّا أن ظهر كتاب الأمالي للزَّجَّاجيِّ بتحقيق أد. محمَّد خير البقاعيِّ بحلَّته الجديدة عن دار الغرب الإسلاميِّ بعنوان: (الأمالي من الفوائد والأخبار) حرصتُ على قنية الكتاب، وأطرقت أقلِّب النَّظر فيما احتواه من فوائد وما يجتنى من عوائد، فإذا عيني تقع على الفقرة (698) من تفقير الكتاب، وهي مسألة (ما أغفله عنك شيئاً!) وما ساقه فيها من توضيح وتفسير أعادت بي عهداً قديماً للمسألة، فأنشطني ذلك من جديدٍ لخوض دقائق المسألة والنَّظر في تلافيف القول فيها، ومطارح النَّظر في تفاسيرها، فإذا كان ما سبق هو البذرة فرأي الزَّميل د. فهيد واطِّلاعي على ما ذكر الزَّجَّاجيُّ فيه كانا هما الدَّافع.
وأصل هذه القولة أنَّها نصٌّ من متن كتاب سيبويه، فمَن شَرَحَ كتاب سيبويه فلا بدَّ أن يطرقها، غير أنَّ الشَّاهد لما كُتب فيها شرحاً لا يعطف القول فيها بغير ما شرحها به أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ، وأبو سعيدٍ قد قال فيها: «هذا الحرف ما فسَّره من مضى إلى أن مات المبرِّد، وفسَّره أبو إسحاق الزَّجَّاج بعد ذلك» [النُّكت للشَّنتمريِّ: 1/ 511]، وشرَّاح الكتاب العاقبون للسِّيرافيِّ هم عيال على شرحه، ومستفيدون من قوله، وقبله لم يشرح الكتاب أحدٌ سوى تعليقات لأبي الحسن الأخفش، وقد قال فيها من قبلُ أبو الحسن الأخفش أنا مذ ستين سنة أسأل عن هذا فما وجدت أحداً يعرفه= هذا حديث الكبار عنها.
وأمَّا ما ذُكر عن المستشرق وقوله في التَّصحيف فيها، فالمستشرق اسمه: (جيمس بلاَّمي)، وقد نشر بحثه بعنوان (نصٌّ صعبٌ في كتاب سيبويه)، وهو باللغة الإنجليزيَّة، وله خبر وحديث، وقد ذكر أد. محمَّد كاظم البكَّاء أنَّه ردَّ على المستشرق، ولكنَّني لم أستطع الاطِّلاع على الرَّدِّ، على أنَّ الرَّدَّ قد أَخبَر به أ.د. محمَّد كاظم البكَّاء في بحثٍ له هو (شرح المسائل المشكلة في كتاب سيبويه)، وذكر فيه أنَّه سينشر ردَّه، وكان ذلك في العام (1989م).
أقول لكتاب سيبويه حديث قديم حديث، ومنه أنَّ غالب أمر ما يستشكل منه هو أنَّ سيبويه قد كتبه إبرازةً ثانية بعد تلف الأولى، وأنَّه لم يكتب له مقدِّمة، وأنَّه لم يُقرئه أحداً ولم يقرأه عليه أو على غيره كاملاً في حياته أحدٌ، وأنَّه أُخِذ وجادة؛ لذا أصبح فيه عوائص تُستشكل. [متبوع]
** **
- د. فهيد بن فهد الرباح