د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ماتت الملكة إليزابيث الثانية عن عمر ناهز الـ 96 عاماً، وقبل ذلك بشهور معدودة، مات زوجها عن عمر ناهز الـ 99 عاماً، وهكذا هي الحياة لا تدوم على حال، ومهما طال العمر فإنه يظل قصيراً، والموت هو المآل، ولابد من مغادرة الحال، والذهاب إلى القبر سواء كان الميت ملكاً أو ملكة أو فقيراً مقهوراً مظلوماً، فالمصير واحد لسائر البشر والمخلوقات جميعاً، ولا يبقى إلا وجه الله العلي القدير، الذي خلق الكون فأحسن خلقه، ودبر الأمور وقدرها تقديراً، بحكمة بالغة، ودقة متناهية، فسبحان الخالق عز وجل الذي لا يموت، جعلنا الله من العابدين المخلصين الصادقين الصالحين المصلحين.
الملكة إليزابيث الثانية ملكة حكمت بريطانيا حكماً دستورياً نحو سبعين عاماً، وحكمت دولاً أخرى حكماً رمزياً، وتعتبر مدة حكمها أطول حكم في التاريخ، وأيضاً أوسع حكم في ما يبدو مع طول المدة.
وربما أن هناك من حكم قبلها مساحات أكبر من العالم، لكنه لم يبلغ المدة التي بلغت على نفس المساحة. والحديث عنها وعن سيرتها أمر معلوم، سجل عبر الأفلام، والأقلام، وجسدته الرسوم، من موالين وخصوم، والملك وصل إليها بعد تنازل عمها لأبيها، ومن ثم وفاة والدها، وسنقف عند بعض المحطات المثيرة في حياتها، التي ميزتها عن مثيلاتها.
المحطة الأولى زواجها من الأمير فيليب، فقد وجد ذلك الزواج معارضة من الأسرة المالكة ومن المستشارين، لكن الحب جعلها تصر على الزواج رغم المعارضين، وكانت معارضتهم، نابعة من أنه لم يكن من الأسرة المالكة، حتى وإن كان من أسرة ملكية مبعدة من اليونان، وأيضاً هناك اختلاف في المذهب، وأمور أخرى تتعلق بالفرق بين الأسرتين الملكيتين، وقد أثبتت الأيام أن قرارها كان صائباً، حيث إن حياتهما الزوجية الملكية الطويلة كانت ناجحة في ما يظهر للجميع، ولم تمر به عقبات، ولكن لابد من المشاكل بين الزوجين كما هي العادة في أي أسرة في أي زمان، وفي أي مكان، بغض النظر عن الأسرة كونها ملكية أو غير ملكية، أو غنية أو فقيرة، هكذا هي الحال على مر العصور والأزمان، وفي الآونة الأخيرة تأثرت كثيراً بفقد زوجها، وتدهورت صحتها مع صمودها، وعدم الإفصاح عن ما بداخلها.
المحطة الثانية هي الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي ذهب ضحيتها ملايين البشر من القارة الأوروبية ومن غيرها، وقد كانت بريطانيا رأس الحربة في تلك الحرب المدمرة، وكان الشعب البريطاني يستلهم من الملكة صموده وأمله في القضاء على النازية، فقد كانت رابطة الجأش، قوية مع إصرار كبير بوجود رئيس وزراء استثنائي ومميز، وعملت مع الجيش البريطاني في ميكانيكا الدبابات لتحث الشعب على التضحية ومواصلة القتال، صحيح أنه لم يكن لها دور ميداني سواء عسكرياً أو سياسياً لأن النظام البريطاني الدستوري يخول لرئيس الوزراء المنتخب من الشعب، اتخاذ القرارات المتعلقة بالدولة والشعب الذي انتخبه، لكن أيضاً عدم تدخلها في الأمور السياسية في المواقف الصعبة في أصعب مرحلة في تاريخ بريطانيا جعل المراقبين يزدادون إعجاباً بها، حيث إنها لم تعمل على تقويض الأساس الذي بنيت عليه الملكية البريطانية، وكان دورها إلهام الشعب الصمود والإصرار على الانتصار، وضرب المثل بالتضحية المادية والمعنوية والميدانية.
المحطة الثالثة وذلك الحدث الكبير داخل الأسرة الذي أثر أثراً كبيراً في المؤسسة الملكية البريطانية، وهو ما حدث من خلاف بين الأمير تشارلز ولي العهد آنذاك والملك الحالي، وبين زوجته الراحلة ديانا التي كانت محبوبة حباً هائلاً من قبل الشعب البريطاني، وشعوب الأرض الأخرى لما تحلت به تلك الأميرة الراحلة من صفات، ومنها البساطة، والتواضع، وعمل الخير، والحرص على القيام بالأعمال الخيرية بنفسها، وهذا طبعاً لا يتفق مع البروتوكول الملكي الذي يقيد بعض التصرفات الشخصية الوراثية وغير الوراثية، وهذا ما لم يكن سهلاً على نفس تلك السيدة الراحلة، إضافة إلى أن الحب بين الزوجين لم يكن عميقاً لكي يؤدي إلى التغلب على الصعاب، ولا ننسى أيضاً ذلك الحب السابق العميق للملك تشارلز بسيدة أخرى هي السيدة كاميليا بيكر التي أصبحت زوجته الحالية، وهذه الأحداث بلا شك كانت مؤلمة للملكة الراحلة، لكنها كانت صامدة وصابرة وصامتة، وقد تجاوزت تلك المحنة الكبيرة بكسر القليل من البروتوكولات ومحاولة إقفال الموضوع وتجاوزه إلى غيره، وهذا من الذكاء الشخصي والسياسي.
المحطة الرابعة، كانت قرار زواج حفيد الملكة وابن الملك شارلز الأمير هاري من ممثلة أمريكية لا تمت للأسرة الملكية البريطانية بصلة، أو الأسرة الملكية الأخرى، وكان متعلقاً بها تعلقاً شديداً ثم بعد ذلك أبدت رغبتها في التخلص من القيود والبروتوكولات الملكية، وهذا أوجد مشاكل كبيرة داخل الأسرة، مما حدى بفضول الصحفيين لتلقف ما يجري داخل القصر وخارجه، وانتهى الأمر بتنازله عن لقبه الملكي ليعيش عيشة حرة متنقلاً بين الدول الأخرى مع زوجته التي أنجبت له، وما زال الحال على ما هو عليه.
وهكذا الحياة قدوم وارتحال، وأفراح وأتراح، ولله في خلقه شؤون.