فقدت المملكة في نهاية شهر محرم لعام 1444هـ ابنة أحد أشهر العلماء في القرن الماضي وهي الجوهرة بنت الشيخ محمد (شيخ المشايخ كما يسميه والدي أطال الله في عمره) بن الشيخ إبراهيم (قاضي الرياض) بن عبداللطيف (مفتي نجد) بن عبدالرحمن (المجدد الثاني) بن حسن بن الإمام محمد بن عبدالوهاب, والدتها من الناصر أهل الدرعية من بني زيد تزوجت جدتها من السالم والناصر والمعمر وأنجبت من السالم عبدالله السالم أمير المويه قرب الطائف وصالح السالم تولى إمارة الطائف وعمل في مكتب وزير الداخلية الأمير فهد (الملك فهد) السالم من أهل الدرعية من بني تميم, وأنجبت من المعمر الجوهرة المعمر رحمها الله والدتها نورة بنت عبدالرحمن الناصر (أم سليمان الصالح) أكبر أبنائها وهو أخو الجوهرة الكبير من الأم تولى محطة تلفزيون الرياض ثم تقلد مناصب عليا في أمانة الرياض, أما إخوانها من الأب فهم معالي الشيخ عبدالعزيز بن محمد تولى العديد من الأعمال وآخرها مستشار في الديوان الملكي بمرتبة وزير, ومعالي الشيخ إبراهيم بن محمد وزير العدل السابق, والشيخ أحمد بن محمد رحمهم الله, وأما شقيقها الوحيد معالي الدكتور عبدالله بن محمد (شقيقها الأصغر) وهي عمة معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ الذي تولى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ويعمل الآن وزير دولة وعضو مجلس الوزراء وعضو مجلس الشؤون السياسية والأمنية وهي الابنة الوحيدة لسماحة مفتي الديار.
نشأت في بيت دين وعلم فوالدها مفتي الديار السعودية سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم وأعمامها فضيلة الشيخ عبدالله بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبدالملك بن إبراهيم لم يبقَ أحد منهم, نسأل الله لهم الرحمة, وكان لتلك النشأة التأثير الكبير في شخصيتها منذ الصغر (رحمها الله) حيث اكتسبت العديد من الصفات والخصال الحميدة سواء من والدها أو من والدتها رحمهما الله.. يقول الشاعر: (أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم)
إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
ويقال إن جدتها دعت الله أن يتزوج ابنتها رجل صالح فتزوجت من الشيخ محمد بن إبراهيم, ولدت في النصف الثاني من القرن الماضي كانت تحفظ معظم القرآن الكريم وتحرص على قراءته حتى عندما اشتد عليها مرضها في السنوات الأخيرة لم تنقطع عن قراءته, وكانت آخر سورة قرأتها من سورة الإسراء (اللهم اجعله شاهداً لها لا عليها, وكان والدها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي جمع بين كثير من الصفات الشخصية الفذة فهو حكيم قوي الشخصية قال الشاعر الشيخ عبدالله بن إدريس رحمه الله قصيدة مما جاء فيها: ما عاش إلا للعلوم وشرعة الإنصاف
وقضى الحياة مكرّم الأوصاف
ناداه من نبع المكارم مَحْتِدٌ
فغدا يعيد مآثر الأسلاف. ويقول: هو نادر في عصرنا، هو درة.
من ذا يقيس الدر بالأصداف
أملى على التاريخ سفراً خالداً
بالصدق لا بالمين والأرجاف إلى أن قال: فلشدَّ ما كان التأثر والأسى.
يغرى العيون بها طلٍ وَكَّاف
حملوك أعناقاً لأنك منهمُ
كالرأس من جسد.. وَلاَتَ خلاف
يا رحمة الله الكريم تغمدي
روح الفقيد بسابغ الألطاف
يحدثني المؤرخ الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد يقول, حينما أتى الشيخ عبدالرحمن بن سعدي إلى الرياض أتى مجلس الشيخ ثم صدر الشيخ عبدالرحمن فرفض الشيخ وأقام له مأدبة ثم أقام له أبناء الشيخ وعدد من أفراد أسرة آل الشيخ ولائم كثيرة وإن دل على شيء دل على تواضع الشيخ حيث إن الشيخ ابن سعدي لا يحمل أي منصب في ذلك الوقت وكان رحمه الله واسع العلم وكان سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز كثيرًا ما يبكي إذا تذكره. تقول رحمها الله إن الوالد الشيخ محمد بن إبراهيم كان يفرح كثيراً بنزول المطر وكان عندما يكون في بيته (كان يخوض في المطر في (بطن الحوي حاسراً الراس) وهذا من السنة.
وكانت تذكر أيضاً أن والدها الشيخ محمد له هيبة ووقار خارج المنزل وداخله ومع ذلك كان أباً حنوناً عطوفاً رحمه الله, وكانت تروي العديد من المواقف لأبنائها التي تؤكد ذلك. ثم تزوجت في أواخر الثمانينيات الهجرية من ابن عمها الأستاذ عبدالله بن عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ أسبغ الله عليه الصحة والعافية وهو من وجهاء المجتمع ورجل أعمال فعاشت في منزل سماحة الشيخ عبداللطيف رحمه الله وكان الشيخ عبداللطيف مثالاً نادراً للوفاء والكرم، والحلم والأناة، والسماحة وحسن الخلق؛ فبابه وقلبه مفتوحان للقاصي وللداني، وللكبير وللصغير، وللغني وللفقير؛ لا يرد سائلاً يطرق بابه، ولا يتوانى عن نصرة من طلب شفاعته، وكان يقدم المساعدة للناس في كثير من مسائلهم التي يلجؤون إليه فيها لحل خلاف فيما بينهم). وكان نائب الشيخ في المعاهد والكليات كذلك كانت له حلقة في مسجد الشيخ محمد وللشيخ محمد قصيدة تعبر عن محبته يقول فيها:
ألاياحداة العيس مني تحملوا***تحية مشغوف الفؤاد وسيروا
ولم تطل مدة البقاء في بيت الشيخ عبداللطيف لوفاته ومن صفاتها رحمها الله:
الإصلاح بين الناس: قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (سورة النساء/ 114)، وجدت من أحسن من تكلم عن هذه الآية الإمام أبو عبدالله القرطبي حيث قال قوله تعالى: أو إصلاح بين الناس عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى، وفي الخبر: (كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله تعالى). فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن. وسيأتي في «المجادلة» ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا. وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار. وقال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا؛ فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد وكانت رحمها الله تسعى للصلح بين الناس وساعدها ذلك التأني وعدم الاستعجال وكانت توصي أبناءها وبناتها بذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلَة مِن الشَّيطان))(1)، إضافة إلى تحليها بالحكمة وذلك بتنزيل الأشياء في منازلها ووضعها في مواضعها يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (سورة البقرة/ 269)، وكان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله الذي عرفته في آخر حياته وكنت صغيراً لأن والدي لازم دروسه عقدين من الزمن يحرص على الإصلاح بين الناس وليس هذا بغريب فكلهم من جامعة الشيخ محمد بن إبراهيم.
صلة الرحم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه»، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» من الأمثلة : التي كانت ترويها لأبنائها تقول رحمها الله: كان والدي الشيخ محمد في صغري يسألني عن أسماء أعمامه وهم أحمد توفي في مصر ثم عبدالله وهو جد الملك فيصل من جهة الأم ومن ذريته معالي وزير الدولة محمد بن عبدالملك آل الشيخ ثم عبدالعزيز ومن ذريته (الصحابي) ثم إبراهيم جد المترجم لها ثم محمد جد سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز وجد معالي المستشار تركي ثم عمر جد معالي الوالد وزير الشؤون البلدية والقروية السابق المهندس عبداللطيف ثم صالح ثم عبدالرحمن جد معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ د. عبداللطيف ويحرص بأن أحفظهم بالترتيب وكنت إذا نسيت أحداً منهم طلب مني أن أعيدهم جميعاً وهذا من باب الحرص على صلة الرحم وهم سبعة إضافة إلى جدها الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف يصبح المجموع ثمانية وكانت رحمها الله من أكثر الناس حرصاً على صلة الرحم.
الصبر : وهو لغة المنع وقد ذكر الصبر في أكثر من موضع في القرآن قال تعالى {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، قال الشاعر:
وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ
لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَل
والجميع محتاج للصبر التاجر والطالب وتشتد الحاجة في الأوقات الصعبة كالمرض وغيره وكانت رحمها الله صبورة وقد ظهر ذلك جلياً في مرضها الذي عانت منه 12 سنة ولم تجزع وأنا أعرف أن ما يعني من هذا المرض يقع عليه ألم شديد وفي الحديث الصحيح (يا رسولَ اللهِ ! أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ) قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر/ 10). أسأل الله أن تكون منهم.
الثقافة: تحفظ معظم القرآن وتحمل الشهادة الابتدائية ورغم أنها لم تكمل دراستها إلا أنها كانت مطلعة وكانت تقرأ وتتطلع على الكثير... وكانت واسعة الثقافة وتتذوق الأدب وتردد كثيراً من الأشعار كانت رحمها الله تردد أبيات من قصيدة ابن الجوزي كلما اشتد عليها المرض.
لنا بالله آمالٌ وسلوى
وعند الله ما خاب الرجاءُ
إذا اشتدت رياحُ اليأْس فينا
سيعقبُ ضيقَ شدتِها الرخاءُ
أمانينا لها ربٌ كريمٌ
إذا أعطى سيدهشُنا العطاءُ
وكذلك البيت الشهير:
ما بين طرفة عين وانتباهتها
يبدل الله من حال إلى حال
كما كانت تذكر لأبنائها أن والدها الشيخ محمد رحمه الله كان يردد رحمه الله دائماً الأبيات التالية:
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري
ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً
حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها
صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
وكانت تردد:
ما مضى فات والمؤمَّل غيبٌ
ولك الساعة التي أنت فيها
الجانب الخيري:
* كانت رحمها الله على خلق وأحرص ما تكون على بذل الخير ومساعدة المحتاجين وكانت عضواً مشاركاً في عدد من الجمعيات نسأل الله أن لا يحرمها الأجر.
الوصية: كانت توصي أبناءها بالصلاة وصلة الرحم إلى آخر لحظة في حياتها.
الوفاة: وفي يوم الجمعة الأخيرة من شهر الله المحرم فجع الناس بوفاة ابنة سماحة الشيخ محمد وأخت معالي الشيخ الدكتور عبدالله بعد مرض عانت منه وقد أدى الصلاة عليها أمير منطقة الرياض بالنيابة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالرحمن آل سعود في جامع البابطين ودفنت في مقبرة الشمال.
الذرية: 1- الأستاذ عبداللطيف وقد فرح به جده سماحة الشيخ وقد أرخ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ميلاد سبطه الأول من ابنته الجوهرة الوحيدة رحمها الله «عبداللطيف» بالهجري بهذا البيت:
(عبداللطيف السبط خذ ميلاده
شغفٌ به ليل انتصاف الخامسِ)
ومنتصف الخامس يعني منتصف شهر خمسة (جمادى الأول) أما (شغف به) فيقابلها في حساب (الجُمَّلْ):
ش = 300
غ = 1000
ف = 80
ب = 2
هـ = 5
المجموع 1387
و بذلك يكون أرّخ رحمه الله تاريخ الميلاد كاملاً في عجز البيت.
2- الأستاذ عبدالمجيد 3- غادة 4- دلال 5- نايف
وحرصت -رحمها الله- على تربيتهم تربية صالحة وكانت تحث أبناءها وبناتها على البر وصلة الرحم والصلاح وفعل الخير.
وفي الأخير أقول لمعالي الشيخ عبدالله ولزوجها الأستاذ عبدالله ولجميع ذريتها أسأل أن يتحقق لكم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (سورة الطور/ 21).
** **
(1) رواه أبو يعلى (7/ 247) (4256)، والبيهقي (10/ 104) (20767) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 359)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 22): رجاله رجال الصحيح، وجوَّد إسناده ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (2/ 120)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3011).
** **
- عبدالرحمن علي أبا الخيل