جامعة عريقة، ليست كبقية جامعات الدنيا، جمعت بين مدرجاتها جميع المفكرين والمخترعين والعلماء والأدباء وجميع المؤثّرين في حياة الأمم.
جامعة ليست لها رسوم مالية باهظة، ولا شروط للالتحاق بها عسيرة، ولا تعنت من بعض دكاترة منفرة، ولا أعمار معينة للقبول بها، ولا درجات محددة، ولا وساطة مكلفة.
نشأ بها جميع عظماء الدنيا، الذين نالوا من المجد شأواً كبيراً، ومن العلم منزلاً رفيعاً، فبدونها تنقص عظمة المرء بقدر تأخره في الالتحاق بها.
تمكن الطالب فيها من التعلّم على أيدي جميع العلماء والأدباء السابقين واللاحقين، الأحياء منهم والأموات، فالأساتذة بها أعدادهم كثيرة.
لا ينال المرء شيئاً من المجد قبل أن يطرق أبوابها، ولا شيئاً من الذكر قبل أن يلج مدرجاتها.
لو نال المرء كل شهادات الدنيا ومؤهلاتها العلمية لن تغنيها عن دخولها ولا العيش في ظلالها، ولن ينال تلك المؤهلات قبل أن يكون بها تلميذ صبور، ولها منصت دؤوب.
هي ليست فقط جامعة، بل هي مربية وأم ومشجعة وصديق حنون، وناقد أمين وأخ كريم، فهي تربي وتشجع وتساند وتعلم وتنقد وتنصح، جمعت كل خصال الأصدقاء والإخوان.
إنها القراءة التي ترتقي بالمرء، فتثقف عقله، وتهذب روحه، وتوسع أفقه، وتخرج مواهبه الكامنة، وتحرّر طاقاته المعطلة.
تخرج فيها الجاحظ والعقاد والرافعي وأنور الجندي والطنطاوي وجميع صفوة الأدباء والعلماء قديماً وحديثاً الذين سمعت عنهم وقرأت سيرهم ومن لم تسمع عنهم.
فالجاحظ فهو القارئ الكبير، الذي ما وقع في يده كتاب إلا قرأه من أوله لآخره، سواء كان كبيراً أو صغيراً، وكيف سيكون الجاحظ فصيحاً في البيان دون أن يتلقى منها ذلك البيان والفصاحة، وكيف سيأتي بتلك المصنفات الرائعة من غير صحبة القراءة والأنس بالكتاب.
وأما العقاد فهو مضرب المثل قديماً وحديثاً في محبة الكتب والقراءة يقرأ في جميع المجالات، ويجمع الكتب ولا يمل من قراءتها، لم ينل إلا قسطاً يسيراً من التعليم النظامي، لم يحظ بدخول الجامعة ولكنه تعلم بجامعة القراءة، التي ترقت بها ليصير كاتباً عظيماً وناقداً كبيراً.
والرافعي صديق المكتبة من صغره، لم يكمل دراسته كالعقاد، ولكن ثقَّف نفسه بنفسه في مكتبة أبيه ونشأ صديقاً للمكتبة والكتاب، لا يسأم منهما، ولا يمل من صحبتهما، فكانت تلك جامعته ومدرسته، فكيف سيأتي بتلك المعاني العميقة والأساليب العربية الدقيقة بدون القراءة.
وأنور الجندي له في القراءة جولات وصولات، وكيف له بتلك المؤلفات الكثيرة دون أن لا يكون له مع الكتب والقراءة أنس، فهو منذ بدايته يقرأ كثيراً، كأن وظيفته صحبة الكتاب والقراءة، له في ذلك معها حكايات وأجمل الذكريات.
أما الطنطاوي فهو حبيب القراءة والقراء، من كثرة حبه لها لا يمل من ذكر مناقبها والدعوة إليها، لا يسأم من الحث عليها، ليس له وظيفة من صغره غير القراءة، عاش في سوريا، كان قليل الأسفار، فاستغن بالقراءة عن السفر والترحال، كل يوم له مقدار يومي كبير من القراءة لا يمنعه عنه مانع، ولا يشغله عن شاغل، وكيف لا يقرأ وهو قد جمع مع القراءة الأعمال التي تعين على القراءة وصحبة الكتاب، من القضاء والخطابة والكتابة والحديث في الإذاعة والتلفاز.
حتى كاتب سطور هذا المقال نشأ فيها، وما زال يدرس بها، فارتقت به بعد أن تقاصر به مؤهله العلمي، فتلقى منها الدروس ما لم يتلقه في مقاعد الدراسة، فقد تعلق بمكتبة المدرسة الإعدادية فكان يذهب في الفسحة لاستعارة كتاب جديد في كل يوم، بعد شراء الشطيرة، يجمع بين غذاء العقل والجسم، ومنذ هذا العهد كانت البداية، ولم يمل من صحبتها وما زال معها ففتحت له آفاقاً في الفهم والتفكير، وصحبة أدباء وعلماء سمع عنهم ولم يرهم، وتعلم منهم، وتلقى منها دروساً لولاها بعد الله ما دراها.
تلك هي جامعة القراءة، تنال بها سعة في العلم، وبسطة في الفهم، وإدراكاً للواقع، وفهماً للماضي، واستفادة من الحاضر، واستشرافاً للمستقبل.
أتمنى أن تدخلوا تلك الجامعة، وتؤثّروا صحبتها على الهاتف ووسائل التواصل وسائر الملهيات التي تضيع الأوقات وتصرفكم عن سائر المكرمات.
** **
Ahmednaseeb15@gmail.com