تركي بن رشود الشثري
ومن منا لا يرنو لمثل هذه النفس، ومن منا لا تحدثه نفسه بيوم يرتاح فيه من التفكير المعقد والغامض بشأن الماضي والمستقبل، بل ومن منا لا يتمنى أن يتعامل مع يومه بواقعية ومرونة وسهولة وهناءة، إنها أحلام رائقة ومشاعر دافئة تمر بالمرء فينة بعد أخرى عندما يفكر في حبه لذاته والشفقة عليها وتحسس مواطن الوجع فيها، لقد تراكمت عليه جروح الطفولة وضربات الزمان وسمته الشخصية كأن يكون تفصيلياً لحد الوسواس، أو شكاكاً، أو نرجسياً أضناه الكلف بنفسه وانفض عنه أصحابه مع نقص في الخبرة والثقافة، وهاهو يطمح للعيش الهادئ في ظل نفس لا تسيء الظن، ولا يؤرِّقها الشعور بالنقص، ولا توترها المقارنة الدائمة بالآخرين، ولا تنتظر التصفيق من الجميع لها كنجم الحفل، ولا تدقق في الصغائر، ولا تخاف المستقبل وتخشى الفقر!..
الكلمات أعلاه مدخل يُسهِّل استقبال الأسئلة التالية والتي تتعلق بتحقيق الهدوء باتزان:
- ما مدى المسافة بين قيمك وسلوكك؟
الأخلاق باب من أبواب الحياة بل هو بابها الأرحب كيف لا وهو الصمغ الذي به تتلاحم أبعاض المجتمع، إذ الناس بلا أخلاق في تعاملهم يصيرون أقرب إلى الوحوش منهم للآدمية، وقد جاءت جميع الشرائع والأديان لتقرر هذه الحقيقة، وإنها لعبادة في الإسلام عالية ومرتبة غالية أن تُخالق الناس بخلق حسن فتثاب بجوار النبي صلى الله عليه وسلم في جنات عدن، واعلم أن التوبة لا تقتصر على السرقة، أو الكذب، بل تشمل التوبة من سوء الخلق، فبعضهم يستمر في سوء الأخلاق ظناً منه أن هذا أمر قد كُتب عليه ولا مفر منه،جرِّبها فهي حال جميلة لا توصف، ألا وهي التوبة من الأخلاق السيئة، والقيام بحق الناس حق القيام، وذلك بأن تُخرج إليهم أفضل ما لديك من ثناء ودعاء ومعاملة حسنة؛ يقول تعالى في وصف أهل الجنة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }، إذن نزع الغل والأخوَّة الصافية من الشوائب طرف من نعيم أهل الجنة فلماذا لا تحاوله الآن؟ فيك خير كثير ومكامن عطاء عدة ولكنك كبتها وصغَّرت روحك الكبيرة، تذكر أنك ستموت ولن تتمكن بعدها من إهداء من تحب أجمل ما في داخلك.
إنه وحتى العقل لا يتقبل الاختلاط بين الناس إلا وفق ضوابط الأخلاق التي تكفل ضمان الحقوق النفسية والمادية، وأول من تستعمل معه ذلك وتخالقه به هو نفسك أنت، إن استخدام اللغة الداخلية الراقية مع النفس يهذِّبها وينمِّيها وينعش كوامنها فتتفجر بالعطاء والخير لكل من حولها، ألم ترَ إلى الذي يحتقر نفسه ويشعر بنقصها ويجلدها دائماً كيف ينظر لمن حوله وكيف يعاملهم؟
خصوصاً مع أبنائه وما تفرع منه إنه يحتقرهم ويغذِّيهم بالكلمات الموجعة ليلاً ونهاراً، إنه إناء وهذا نضحه، لقد آن الأوان أن تحترم نفسك وتلين لها لا في اتباع هواها ولكن في معاملة ذاتك بأروع ما توصلت إليه من رفيع الأخلاق وخالص الذوق، إنها تستحق منك ذلك فكم صحبتك وكم صبرت عليك، ثم اعلم أن السلوك هو المحتوى الذي تملأ به قوالبك القيمية فالمبدأ والقيمة يعبران عن الخواء والصفير إذا لم يقارنهما السلوك، لقد عرَّضت ضميرك للتأنيب المتصل، وعرَّضت شخصك للنقد الخفي فيما بين الناس لمَّا اعتنقت القيم والمبادئ وغرَّدت بها قبل أن تكون أنت تمثيلاً قائماً لهذه المبادئ وتلك القيم ولن يهدأ لك بال ولن يقر لك قرار ما لم تكن كذلك، إن حبك لنفسك وعزتها عليك تقتضي منك طرح السؤال التالي:
- ما مدى حبك لنفسك؟
إن الجلد طويل المدى للذات يورثك نفساً مهزوزة ضعيفة، إن التأنيب الحاد للضمير لا يعطيك النتائج المرجوة بل على العكس، فإنك تصل للحال التي تخشى أن تكون عليها من قلة الحيلة، ويتكوَّن هذا بمر السنيين وعليه فلا بدَّ لك من التعرّف على ذاتك على وجه الخصوص ما تحب وما تكره، ما يلائمها وما لا يلائمها، وتتخلص من الأمعية الفكرية والبدنية والروحية، وتكف عن محاولة تقمص شخصيات من ترى فيه القدوة حذو القذة بالقذة فهذا خَلْقٌ آخر أعطاه الله من الاستعدادات والقوى والخبرات والمواقف ما أدى إلى صقل شخصيته التي تراها أمامك، فهذا القدوة أو ذاك هو عبارة عن مُنجز ونتيجة وعصارة لما مر ذكره، مما لم تعطاه ولم يمر عليك مع مراعاة فارق السن أيضاً فالغالب أن القدوة سيكبرك بسنوات هذه السنوات لها حساب ولها دور في نضج الشخصية، وويل لك إن جعلت هذا القدوة العظيم في نظرك مقياساً لنجاحك وتوافقك مع ذاتك لأنك لن تنجح ولن تصل إلى التوافق مع ذاتك لماذا؟
لأنك تسعى وتجهد في التوافق مع ذات قدوتك لا مع ذاتك أنت وليس هذا من التوازن في شيء، وقد مر في الأسطر السابقة أن هناك فروقاً بينكما في التكوين وظروف الجيل والقُدَر الذاتية وغيرها، إذن القدوة شمعة تضئ طريقك للانطلاق، فلا تتحول إلى شمعدان يتقاطر عليه السوائل الساخنة في اجترار لآلام الفشل والإخفاق المستمرين، هذا فيما يتصل بالمعنى في العناية بالنفس، أما الجسد فبسلامته يسلم العقل وتسلم النفس كذلك، وإن سألت عن القلب فإنه قد يسلم وإن كان الجسم عليل، ولذلك فاعلم أن:
الرياضة حق الجسد، الرياضة وتمرين العضلات هو الحق الذي للجسم والذي يتعلل بضيق الوقت فما باله يصرف الأوقات في تبخيس هذا الجسم وأذيته والنيل منه، فالإنسان الذي يشعر بالنقص، والذي تعرَّض لأحداث مؤلمة في طفولته تنتابه مشاعر بتزعزع الثقة وكراهية الذات فيسعى في تعذيب هذه الذات من حيث لا يشعر من خلال إنكار حق الجسم عن طريق: سوء التغذية، وإهمال العناية بالأسنان، والسهر المبرح، والإدمان على كل ما من شأنه تدسية هذا الجسم واحتقاره: كالمخدرات أو المواد الإباحية أو غيرها، فكم تستغرقه أوقات هذه الدوامات السلبية اليومية مع أن الأسبوع يحوي (168) ساعة والمطلوب لممارسة الرياضة كأقل تقدير (4) ساعات فقط بواقع أربعة أيام لكل يوم ساعة من (168) ساعة والمسألة لا تحتاج إرادة قوية، فهي أي الإرادة تحضر وتغيب وتقوى وتضعف، بينما التوجه الفكري ثابت لا يتزعزع مهما ضعفت النفس، وهل الآفة إلا النفس وضعفها فإكسير تجاوز هذا الضعف هو التوجهات الفكرية السليمة لا المعلومات الكثيرة حول فوائد الممارسات الصحية ولا ما يسمى بالإرادة القوية، وبذلك يتحقق لك القدر الذي لا بأس به من التوازن النفسي.