جانبي فروقة
يقدِّر المحلِّلون في بنك جولدمان ساكس أن فاتورة الإنفاق على التدفئة والكهرباء في أوربا ستزيد بقيمة 2 تريليونين يورو، حيث باتت الأسرة الأوربية المتوسطة تدفع فاتورة طاقة شهرية بقيمة 500 يورو. وتطلب الحكومات الأوربية اليوم من المواطنين والشركات توفير الطاقة بينما يستفيد المشترون البديلون للنفط والغاز الروسي بما في ذلك الصين والهند من الأسعار المخفضة للطاقة الروسية.
كتبت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوربية على تويتر «أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم الطاقة كسلاح من خلال قطع الإمدادات والتلاعب بأسواق الطاقة لدينا». وعلّق سابقاً المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي لرويترز قائلاً: «ليس مستغرباً إغلاق الروس لخط الأنابيب الذي ينقل الغاز إلى أوربا، وأن تستمر روسيا في استخدام الطاقة كسلاح ضد المستهلكين الأوربيين» والمفارقة الغريبة أن أمريكا وأوربا أيضاً اعتمدتا العقوبات الاقتصادية (من الدولار والنفط والتكنولوجيا والنظام المصرفي) كأدوات وأسلحة لمواجهة الروس والضغط عليهم. والواضح أن الروس والغرب يلعبون بنفس الطريقة والقواعد اليوم.
كما يتوقّع محللو جولدمان ساكس أن أزمة النفط الحالية ستتطور لتكون أعمق من أزمة النفط في السبعينات. ويقدّرون أن الاقتصاد الألماني الذي يعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي سيعاني من هبوط بمقدار 3 % العام المقبل.
أتت جانيت يالين وزيرة الخزانة الأمريكية بفكرة جهنمية وهي بوضع سقف لأسعار الطاقة الروسي، حيث تم الاتفاق على ذلك في قمة الـG7 ولتحقيق الخطة ستعتمد الدول على معاقبة كل شركات النقل التي تنقل النفط أو الغاز الروسي بسعر يتجاوز السقف الذي ستحدده هذه الدول. ورفض الرئيس فلاديمير بوتين الفكرة ووصفها بأنها «غبية» وهدد بجعل أوروبا «تتجمد» هذا الشتاء إذا تم الاتفاق على سقف. وبالفعل تم تخفيض الإمدادات الروسية لأوربا، حيث هبطت من 40 % من استيراد أوربا قبل الحرب على أوكرانيا إلى 9 % فقط اليوم.
تتطلب خطة سقف الأسعار موافقة الـ27 دولة أوربية واشتبك وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي مؤخراً بشأن هذه الخطة لوضع حد أقصى لسعر الغاز الروسي، مما ألقى بظلال من الشك على ما إذا كان هذا الإجراء سيمضي قدماً. وقد عارضت المجر وسلوفاكيا والنمسا الاقتراح لأنها من أكبر الدول المستوردة للغاز الروسي وإيقاف الغاز سيدفع دولها للركود. وحتى لو ملأ الأوربيين احتياطي الغاز عندهم فهذا سيكفيهم فقط لمدة ثلاثة أشهر وستبقى المشكلة قائمة لشهور عدة.
أثناء اجتماع قمة الـG7 (العمالقة السبع) الأخيرة أعلن ديمتري بيسكوف (المتحدث باسم الخارجية الروسية) أن روسيا لن تبيع النفط لأي دولة تشترك في خطة سقف الأسعار التي يروج لها الأمريكان، ولكي تنجح خطة سقف الأسعار لا بد من مشاركة الهند والصين وإندونيسيا والذين يحصلون اليوم على النفط الروسي بتخفيضات تصل إلى 30 % ولكن يبدو أن هذه الدول لن تشارك بهذه الخطة لأنها أعلنت أن هدفها الحصول على طاقة رخيصة.
إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الكاسب الأكبر من ارتفاع أسعار الطاقة واستفادت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب الروسية الأوكرانية فعلى الصعيد الاقتصادي تم ضرب أسفين في علاقة الطاقة الوثيقة والطبيعية بين أوربا وروسيا وتم ضرب خط نوردستريم 2 (الذي وصلت تكلفته إلى 10.6 بليون دولار) واعتلت أمريكا عرش قائمة المصدرين للغاز الطبيعي المسال بالعالم واستفادت من السعر المرتفع للغاز والذي كلف وسيكلف الأوربيين التريليونات من الدولار فقد ارتفع سعر الغاز من 16 دولاراً لكل وحدة حرارية بريطانية في عام 2021 م إلى 100 دولار في أغسطس 2022م وزادت صادرات أمريكا لأوربا في عام 2022 م إلى 70 % من إجمالي صادراتها، حيث كانت تشكّل فقط 30 % عام 2021م وعلى سبيل المثال زادت واردات بلجيكا وحدها إلى 650 % في عام 2022 م من الغاز الأمريكي المسال مقارنة بعام 2021م وطبعاً السوق الأوربي هو سوق قوي وقريب وغني بالنسبة للشركات الأمريكية وهي أفضل من الأسواق الآسيوية التي هي بعيدة وفقيرة (تقدر إدارة معلومات الطاقة EIA أن كل شحنة غاز أمريكية تربح 200 مليون دولار). وعلى الصعيد السياسي صارت أوربا بحاجة أكبر للولايات المتحدة الأمريكية وصعدت قوة الناتو وتم استقطاب دول أخرى مثل فنلندة والسويد.
تسعى الإدارة الأمريكية إلى إطالة الحرب الأوكرانية مع ضمان حصرها ضمن الأراضي الأوكرانية لاستنزاف قوة الروس وتأمين «هزيمة إستراتيجية» ستضعف روسيا لا سيما مع العقوبات الاقتصادية وقد قال سابقا كريس كونر (عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي) « لقد خسر بوتين بالفعل من منظور إستراتيجي أكبر» ولكن الواضح أن روسيا هي دولة قوية وتخط لها مكانة على الساحة العالمية ولا يرجع ذلك فقط إلى ثروة روسيا من النفط والغاز، بل أيضاً يضاف إلى ذلك ثرواتها من الحديد والنيكل والألماس والفحم والبلاديوم والألومنيوم واليورانيوم والذهب والبلاتينيوم، حيث تساهم روسيا عالميا بـ14 % من إجمالي استخراج المعادة عالمياً بالإضافة لمكانتها القوية في الساحة الزراعية بمنتجاتها من القمح والذرة وزيت دوار الشمس والأسمدة. وكان واضحاً جداً أن الارتدادات السلبية والعكسية للعقوبات الاقتصادية على روسيا تحملها العالم أجمع وطالت آثارها الاقتصاد الأمريكي بالتضخم وارتفاع أسعار الطاقة.
تفيد تجربة علمية بأن الضفدع إذا وضع في ماء مغلي سيقفز مباشرة منه، بينما إذا وضع في ماء معتدل الحرارة يسخن تدريجياً فإن الضفدع لا يقفز لأنه غير مدرك للخطر المحدق به ويبقى في الماء حتى يموت عندما تبلغ درجة الحرارة الحد المميت وتعرف هذه التجربة بـ (متلازمة الضفدع المغلي) (The Boiling Frog Syndrome) واليوم لا نستطيع الجزم هل أوكرانيا هي الضفدع أم روسيا ولكن مما لا شك فيه أن من يسخن الماء هي أمريكا.