من الثابت أن أحد مظاهر الحضارات ما دون مع مرور الزمن عن تجربة أهلها، وما مر بهم في سعة وضيق، وشدة وفرج، وما عانوه من تعب، وما نعموا به من راحة، وما اقترفته أيديهم، وما ابتلوا به دون عمد منهم، أو ابتداء، وما نكبهم به الزمن، وما جنته أيديهم، وما أنجزوه من عمل مجيد، وما قصروا عن إنجازه.
يأتي ذلك مدونا في صورة حكم أو أمثال أو أشعار فتشع هذه ضياء يكشف ما وراءها من خبر، وتبي نوراً يهدي الآتي بحصيلة ما مر بالذاهب، فيحذر ما يجب الحذر منه، ويُقدم على ما يجب الإقدام عليه.
والكلمة الحكيمة هي الكلمة الصادقة، والكلمة الصادقة هي التي تحمل الحقيقة ويتعدى نفعها الفرد إلى الجماعة.
وللكلمة الحكيمة ضياء باهر، وإشعاع براق، كلما جاءت الكلمة نتيجة تدبر وتبصر واستقراء، وعصارة تجربة، وزبدة عناء ومكابدة.
وللكلمة الحكيمة عمر مديد، يتسلمها زمن مقبل من زمن غابر، فيحتضنها متسلمها درة ثمينة، وجوهرة غالية، يستفيد منها أهله، ويحافظ عليها، حتى يسلمها سليمة إلى زمن مؤتمن يأتي بعده، ويحل محله، وهكذا تستمر تنتقل من زمن إلى زمن، وتنحدر من جيل إلى جيل.
والقول الحكيم يزيد إشعاعه أو ينقص حسبما يكون الزمن، فإن كان زمن عقل وتبصر ازدهر القول وانتشر لواؤه، وإن كان زمن جهل وحمق، خبا نوره إلى زمن آخر.
والحكم صور صادقة لعقول قائليها، وقائلوها صور صادقة لأممهم، والعرب انصهروا في بوتقات مختلفة من حواضر وبواد، ومع الزمن أرسوا أسس حضارة فريدة، شهد لهم بها القاصي والداني، وكانوا إشعاعاً، أضاء جوانب البلدان التي وصلوا إليها مع المد الإسلامي، فكانوا مصدر العطاء للبلدان المجدبة من الحضارة. وما دون في كتب الأدب من الحكم المنيرة يكفي شاهداً على ارتقاء تفكير العربي في صحرائه، فصاغ تجربته وما توصل إليه عقله، وما هداه إليه تبصره وتدبره فيما حوله، وبما يمر عليه، في جمل أصبحت معالم على الطريق يهتدي بها اللاحق، مقدراً للسابق هذا الإرث الغالي.
ولقد سُجل عن العرب منذ القدم من طرح عقولهم النيرة، حكم صائبة، تدل على عمق تفكيرهم، وحرصهم على ما يقيم أود مجتمعه، الكثير من الحكم التي التمسوها عند الرجل المعمر المُجرب، الذي عرك الحياة.
ثم جاء الإسلام ليعلن: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269)
وخير ما نفتتح به موضوعنا هذه الأقوال الحكيمة للرسول صلى الله عليه وسلم وهي من جوامع كلمة الشريف:
- لا ضرر ولا ضرار (رواه ابن ماجة)
- بروا آباءكم تبركم أبناؤكم (رواه الطبراني)
- من لا يرحم الناس لا يرحمه الله (رواه البخاري)
- كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (رواه البخاري)
- امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك (رواه البيهقي)
- إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (رواه البخاري)
- من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه (رواه الترمذي)
- يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (رواه مسلم)
- اغتنم خمسا بل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (رواه الحاكم).
- تحروا الصدق، وإن رأيتم فيه الهلكة، فإن فيه النجاة (رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت)
- اضمنوا لي ستاً من أنفسكم، اضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا تحدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم (رواه البخاري)
وفي هذا المقال سوف نعرض لأقوال لاثنين من حكماء العرب في الجاهلية والإسلام ألا وهما: أكثم بن صيفي وعمر بن الخطاب.
أكثم بن صيفي الحكيم:
أحد حكماء وفصحاء وبلغاء العرب في الجاهلية، من بني تميم، وقره العرب وعرفوا قدره وفضله، واتخذوا من حكمه ومأثوراته أمثالاً يتداولونها، وفد على كسري أنوشروان، ملك الفرس، لتهنئته بالملك، فلما تكلم بين يديه قال له كسري معجباً به: ويحك يا أكثم، ما أحكمك وأوثق كلامك، لو لم يكن للعرب غيرك لكفي. لم يدرك الإسلام. توفي عام 9هـ / 630م
وأكثم بن صيفي من الحكماء المعمرين الذي تروي على لسانه الحكم الآتية:
- أرني غنياً ما دمت سوياً
- إنك لن تبلغ بلدا إلاَّ بزاد
- يكفيك من الزاد ما بلغك المحل
- لا تسخرن من شيء فيحور بك
- إنك منساق إلى ما أنت لاق
- لا تهرف بما لا تعرف
- بعض الكلام اقطع من الحسام
- مقتل الرجل بين فكيه
- البطنة تذهب الفطنة
- المكثار كحاطب الليل
- من أكثر أسقط
- كثرة الصياح من الفشل
- في العافية خلف من الواقية
- عاداك من لا حاك
- رب لائم مليم
- إن قول الحق لم يدع لي صديقاً
- في الجريرة تشترك العشيرة
- الشر يبدؤه صغاره
- في الاعتبار غني عن الاختيار
- العقل بالتجارب
- إذ نزل القدر عمي البصر
- من عرف قدره استبان أمره
- لقاء الأحبة مسلاة لهم
- أفضل الأشياء أعاليها
- حسن الظن ورطة، سوء الظن عصمة
- الحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء
- لكل مقام مال
- قطيعة الجاهل كصلة العاقل
- إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم
- كل ممنوع مرغوب
عمر بن الخطاب الحكيم:
عمر بن الخطاب (584- 644م)، الخليفة الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الأربعة الخلفاء الراشدين، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، أن يعز الإسلام في أول ظهوره بأحد العمرين - عمر بن الخطاب وعمر بن هشام (أبو جهل)، فكان عمر بن الخطاب موقع الاستجابة، والمختار من الله سبحانه وتعالى ليكون من أعضاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوى مناصريه، ولم يكن يتقدمه في الصحابة إلاَّ أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - ثاني اثنين إذ هما في الغار، والسابق في الإسلام.
كان عمر في مكة هو الصخرة التي ينكسر عليها صلف قريش، وفي المدينة كان نعم الصاحب لرسول الله في حياته، ونعم الوفي لرسالته بعد مماته، حمل الأمانة بعد أن تولى الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه فكان خير مؤتمن عليها (استمرت خلافة عمر لعشرة سنين 13هـ/ 634م- 23هـ/ 644م).
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه- شخص فذ، أجمع من جاء بعده من رجال السياسة، والأدباء، والمؤرخين، والكتَّاب، انه لم يأت بعده مثله.
أما أهم أعمال عمر بن الخطاب والتي كان لها كبير الأثر في نشوء وارتقاء الإمبراطورية الإسلامية فهي:
- تولى عمر الخلافة، في يوم الاثنين الأول من محرم سنة 13 هجرية، 7 مارس سنة 634م
- وضع عمر قواعد النظام الإداري للدولة الإسلامية سنة 15 هجرية، في يوم الأربعاء الأول من المحرم الموافق 14 فبراير 636م
- أقر عمر بعد استشارة الصحابة سنة الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي على أساس الشهور العربية القمرية في يوم الجمعة الأول من المحرم الموافق 23 يناير سنة 638م.
- في عهد عمر بلغ الإسلام مبلغًا عظيمًا، وتوسع نطاق الدولة الإسلامية حتى شمل كامل العراق ومصر والشام وفارس وخراسان، وفي عهده فتحت القدس ودُعي لزيارتها وزارها، كما تجلّت عبقرية عمر بن الخطاب العسكرية في حملاته المنظمة المتعددة التي وجهها لإخضاع الفرس الذين فاقوا المسلمين قوة، فتمكن من فتح كامل إمبراطوريتهم خلال أقل من سنتين، كما تجلّت قدرته وحنكته السياسية والإدارية عبر حفاظه على تماسك ووحدة دولة كان حجمها يتنامى يوماً بعد يوم ويزداد عدد سكانها وتتنوع أعراقها.
- انتهت خلافته يوم الأربعاء الأول من المحرم 23هجرية، 7 نوفمبر 644م.
من أقوال عمر بن الخطاب الحكيمة:
- مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا، لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وتقاطع الرحم
- جالسوا التوابين فإنهم أرقُّ أفئدة
- لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفاً
- إن مما يُصفي وداد أخيك، أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس
- ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرّين
- من كان له رزق في شيء فليلزمه
- ما شيء أذهب لعقول الرجال من الطمع
- في اليأس الغني، وفي الطمع الفقر، وفي العزلة راحة من خلطاء السوء
- إياكم والدَّين، فإن أوله هم وآخره حرب
- لا يقل مع الإصلاح شيء، ولا يبقي مع الفساد شيء
- ما كانت على أحد نعمة إلاَّ كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزاً
- تشقيق الكلام من شقاشق الشيطان
- الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم
- اتقوا من تبغضه قلوبكم
- لأن يضرني الصدق، وقل ما يفعل، أحب إلىَّ من أن ينفعني الكذب، وقل ما يفعل
- الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض
- من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته
- عليك بالصدق وان قتلك
- من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه
- رحم الله امرأ أهدي إلى عيوبي
- من امتطى الشكر بلغ به المزيد
- أعقل الناس أعذرهم للناس
- لكل شيء شرف، وشرف المعروف تعجيله
وختاماً:
هذه كلمات مضيئة بنور العقل، وسلامة التفكير، وفخرنا لا يقف عند التمعن فيها، ولكن في المقارنة بينها وبين مجتمعات مزامنة لها، كانت ترسف في الهمجية، والسذاجة الفكرية، في حين كان آباؤنا يرفلون بحلل المدنية الحقة، والحضارة الباهرة.
** **
salahalshehawy@yahoo.com