د. معراج أحمد معراج الندوي
ترتبط الحضارة بالإنسان عقلاً وعلماً وكشفاً وسنناً، والثقافة ترتبط بالهوية الإنسانية، ولا تهذب الثقافة بعيداً عن الحضارة. الثقافات تتعدد وتدافع وتهذب، ولا يمكن تحقيق ذلك بمعزل عن الحضارة. إن هناك علاقة وطيدة بين الثقافة واللغة، فلا ثقافة بلا لغة، ولا لغة بلا ثقافة، فاللغة والثقافة مرتبطتان معاً لا تنفك إحداهما عن الأخرى. تحتفظ اللغة بالتراث الثقافي جيلاً بعد جيل، وتجعل للمعارف والأفكار البشرية قيمها الاجتماعية.
الحضارة تقوم على قيم الوجود، وقيم الوجود وهي كشف سننه ونواميسه واستثماره في إصلاح الأرض وعمرانها. وكل حضارة تدفع إلى الأخرى اقتضاءً وفق قدراتها وسننها، ثم أن دفعت بالحضارة المعاصرة، فجعلتها أكثر تقدماً ورقياً ويسراً، وهذا لم يحدث إلا من الدراسات على تراث الحضارات السابقة.
لم تنزل الحضارة من السماء ولم تخرج من الأرض كالنباتات والحشائش، بل هي نتيجة تدافع وتسير في الأرض منذ الحضارات الأولى، حيث حاول الإنسان كشف محاكاة ما ييسر حياته، ويفضي إليها بعد يسر، فكشف ما ستر عورته، وطوره إلى ما يزيده جمالاً في اللباس، ثم كشف أدوات فلاحيته وطبخه وصناعته وبنائه لبيته وجسوره، وقام بتنظيم طرقه ومعاشه، استطاع الإنسان بمحاكاته الدواب فصنع السيارات، ثم نظر إلى الطيور فصنع الطائرات، وإذا كانت الحضارة لها ارتباط بالسنن والعقل والسير والكشف، إلا أنها تعزز ثقافات متباينة.
ولم نصل اليوم إلى هذه الحضارة التي نقلت الجنس البشري إلى عالم أكثر يسراً بحياته من العوالم الماضية، إن قراءة الثقافة قراءة إنسانية حضارية، ينقلنا إلى استثمار الوجود، ولأجل الإنسان كإنسان كماهية، لا لأجل الإنسان كإنسان منتمٍ إلى هوية معينة، دينية أوعرقية أو ثقافية.
أما قيم الإنسان الكبرى، فتتمثل في المشترك في الجنس البشري من حيث ما هية الوجود، والناس خلقوا سواء من حيث الأصالة، لا يفتون تكوين ماهية، وما اختلاف ألوانهم وأنواعهم وأجناسهم إلا آية لتحقيق كرامة الجنس البشري جميعاً. واليوم مع تقارب العالم ووجود حضارة إنسانية واحدة، يساهم الجميع بمختلف أجناسهم وأديانهم وهوياتهم في نمائها ورقيها، إلا أن العالم الإنساني لا يزال ينحدر في بعض أجزائه إلى درجته البشرية القريبة من الحيوانية، حيث تطغى بشريتهم على إنسانيتهم، وضيق ثقافاتهم على سعة حضاراتهم.
وإذا كان العالم يبحث في معنى ما بعد الإنسانية، فلا يعني هذا المجال تجاوز الإنسانية، وينظر إلى الوجود من سعة الذات الإنسانية الواحدة, أن يحقق كرامة هذه الذات من خلال سننه الوجود، وهذا معنى الحضارة.