هو الموت اعتاد أن يخطف من بيننا أروع من فينا في وقت كان الشوق قد بلّ دواخلنا وتمكن من مشاعرنا، خاصة حين نتذكر مآثرهم وجمال أرواحهم وصفاء قلوبهم وذكرهم الحسن الذي كانوا يعطرون به مجالسنا ويمسحون به دمعاتنا. يوما بعد يوم ينقص عدد ممن يسيرون معنا في الطريق ونكمل نحن بخطى الشخص الغريب الذي يبحث عن أقرانه وأصدقائه فلا يجد حوله قرين فيضطر إلى أن يكمل المسير، لأنه لا بديل عن السير واستكمال الدرب بمراراته وجراحه!
اعتاد قطار الموت ألا يتوقف ولو للحظة يتوقف قطار الموت ليلتقط الحي أنفاسه ويكتب مآثره وأيامه المتبقية!؟
ها نحن كل يوم نستيقظ على رسالة جوال أو خبر في ثنايا صفحات التواصل الاجتماعي مفادها (انتقل إلى رحمة الله .....) فنفجع بحبيب ودعنا وبصديق رحل عنا دون سابق إنذار أو إخطار!
بعضهم آباء والبعض أمهات وآخرون اخوة وأخوات وأقارب وأصدقاء يجمعهم أن لكل واحد منهم مكانة في القلب وحب تعدى الحصر!
لكن مما يسلي القلب ويجلي الهم حين تعلم أن لأحدهم مآثر تكتب بمداد الذهب وسيرة تسجل في نوادر الكتب بما قدموا وأعطوا وضحوا وبذلوا حينها ينجلي الغم ويذهب الحزن!
حياتنا مليئة بمن قدم لنا معروفاً تمثل في تعليم معلم أو (فزعة) صديق أو موقف اتضحت فيه الشهامة والتضحية من بعضهم وما أكثرهم في زماننا!
قبل أيام ودعت مدينة التويم بسدير معلماً فاضلاً كافح ونافح وبذل كل ما في وسعه لطلابه وأبنائه، هل أحدثكم عن علمه وفهمه وحسن تعليمه؟ أم أحدثكم عن كرمه وسخائه وتجاوزه عن المعسرين؟ هل أحدثكم عن إمامته وخطابته ونصحه وتوجيهه لسنوات عديدة؟
زيد بن بجاد الرويس (أبوبجاد) رجل اقترن اسمه بكل فضيلة وبكل كرم وعطف ومروءة!
درسني في المرحلة الابتدائية كما درس أجيالاً أخرى سبقتني فكان معلماً بما تعنيه الكلمة يشرح درسه بأسلوب شيق ثم يفتح مساحة لمساعدتنا في مذاكرة دروسنا ومراجعة ما أعيا علينا فهمه أو استيعابه ويغدق على الفصل كاملاً بالهدايا والشراء من (مقصف) المدرسة ليرسم البسمة على محيا الأطفال ويسعد برؤيتهم مبتسمين، جنّد سيارته بعد الخروج من المدرسة لإيصال الطلاب إلى منازلهم دون تعب أو كلل أو ملل أو تضجر من ازعاج الأطفال وذلك بصفة يومية، أذكر ان طالبين كانا يدرسان معنا في الصف الرابع آنذاك فجأة توفي والدهما في حادث سيارة فرأيته كثيراً ما يمسح على رؤوسهم ويضع في أيديهم النقود وحينها لم أكن أعلم أن مسحة رأس اليتيم فيها أجر عظيم ودلالة على وجود قلب رحيم عطوف!
يحمل قلباً رقيقاً ذي عاطفة جيّاشة يتأثر كثيراً ويبكي مراراً رحمة واشفاقا، ذاق اليتم وهو صغير وكافح ونافح في ظروف قاسية وقصة من الكفاح المشوب بالعزيمة والإصرار وتحدي الصعاب حتى لأكمل دراسته وأصبح معلماً لا يشق له غبار وخطيباً مفوهاً بين الأنام!
صاحب كرم وجود يحسن إلى الناس كثيرا ويقرض الكثير ممن يطلبه وكان لا يسألهم استرجاعها ولا يذكر أنه أقام شكوى لاستردادها بل كانت مقولته لأبنائه دائماً (دعوهم فقد يكونوا معسرين)!! ولعل الله يشمله برحمته وتجاوزه فقد جاء في الحديث عند أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه: إذا جئت معسرًا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا قال: فلقي الله فتجاوز عنه» (البخاري ومسلم).
كان من الصابرين على ما ابتلي به من مرض في آخر حياته، تقابله فترى الابتسامة تعلو محياه وسؤاله الدائم عن الصغير والكبير وعن كل من له به معرفة أو علم، كان شديد التورع عن الحرام والشبهات وله مواقف مشهودة أسر لي ببعضها رحمه الله، لا اعلم له شاكياً أو مناكفاً أو معادياً أو أن أحداً قد تكلم في سيرته بسوء أو مكروه وذلكم وربي من عاجل بشرى المؤمن فقد جاء في الحديث عن أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: مرُّوا بجنَازَةٍ فَأَثْنَوا عَلَيْهَا خَيرًا، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجبَتْ، فَقَال عُمرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه ما وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيتُمْ علَيْهِ خَيرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وهَذَا أَثْنَيتُم عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرضِ متفقٌ عَلَيْهِ.
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
إن قيل مات فلم يمت من ذكره
حي على مر الأيام باقي
رحم الله معلمنا الفاضل وأستاذنا الكريم فقد فقدنا رجلاً مفضالاً سمحاً كريماً بشوشاً عافاً كافاً زاهداً نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا وعزاؤنا فيه إنه غادر لرب كريم سبحانه يجزي على القليل الكثير ويغفر الذنب الكبير.
عزاؤنا لزوجته الصابرة العمة: الجوهرة النغيمش ولأبنائه الأستاذ بجاد بن زيد الرويس مدير المدرسة السعودية في الجزائر والذي لم تكتحل عيناه بنظرة وداع أخيرة لأبيه لوجوده في مهمة وطنية في الخارج والعزاء موصول لابنه المهندس خالد وأخيه الأستاذ بندر مدير وحدة البيئة والزراعة والمياه بحوطة سدير ولبناته وذويه ولكل محب له وطالب تتلمذ تحت يديه
غفر الله لك أبا بجاد وأسكنك فسيح الجنان وجعل الفردوس الأعلى منازلك ومرقدك.
** **
- د. فهد بن أحمد النغيمش