عبدالرحمن الحبيب
الازدهار الهائل لمنصات العمل عن بعد وتكنولوجيات الخدمات الاستهلاكية والترفيه عن بعد، والارتفاع الجنوني لأسهمها أثناء بقاء مليارات البشر في منازلهم، قابله نمو متواضع لتكنولوجيات البنية التحتية الثقيلة؛ وفي الوقت الذي أشارت فيه التوقعات باستمرار هذه الوتيرة من النمو حدث العكس تراجعت الأولى وازدهرت الثانية. فهل انفجرت فقاعة التكنولوجيا الاستهلاكية، أم أنها طفرة طبيعية نتيجة الحماس المبكر والاندفاع نحوها مما أدى إلى ارتفاع أسهمها أثناء الإغلاقات خلال جائحة كورونا؟
الآن، خدمة بث نتفلكس، وصانع دراجات التمرين الفاخرة بلوتون، وتطبيق تداول الأسهم روبين هود، ومنصة التجارة الإلكترونية شوبفي، ومنصة مؤتمرات الفيديو زوم، تراجعت بأكثر من 80 % من ذروتها. هؤلاء الخمسة الرابحون الأكبر من كورونا كانت قيمة محافظهم قد زادت بنسبة 320 % منذ بداية الوباء حتى بلغت ذروتها في أغسطس 2021. أما حاليًّا فقد تغير الحال، ففي 22 أغسطس 2022، ذكرت شركة زوم أن نمو إيراداتها على أساس سنوي قد انخفض إلى 8 %، وهو أدنى معدل منذ إدراج الشركة عام 2019. وبعد ثلاثة أيام، أبلغت شركة بلوتون عن انخفاض بنسبة 30 % في مبيعاتها الفصلية، مقارنة بالعام الماضي. أما مشتركو نتفلكس فينقلون إلى منصات عرض أخرى مثل ديزني بلص؛ وتقوم روبن هود بتسريح ربع موظفيها بسبب انخفاض مبيعاتها، حسب مجلة الإيكونيميست.
قد يكون للتضخم العالمي والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الفائدة تأثير في ذلك، لكن التحول للعمل الإلكتروني مستمر في التزايد. وإذا كانت شركات التكنولوجيا الاستهلاكية والترفيهية تتراجع فذلك يقابله ازدهار للشركات التي توفر البنية التحتية لتمكين التحول للعمل الإلكتروني مثل الحوسبة السحابية (برامج البنية التحتية) والأمن السيبراني والمدفوعات الرقمية. من المتوقع أن تنمو صناعة الحوسبة السحابية إلى ما يقرب من 500 مليار دولار هذا العام، ارتفاعًا من 243 مليار دولار عام 2019. ولا يزال عرض أمازون السحابي، الأكبر بالعالم، ينمو بمعدل 33 % كل عام. وشكلت ثلاثة أرباع الدخل التشغيلي للشركة على مدار الاثني عشر شهرًا الماضية، وهي تدعم أعمال التجارة الإلكترونية المتعثرة لشركة التكنولوجيا العملاقة. أقرب منافسيها هم الخدمات السحابية من مايكروسوفت وجوجل حيث تنمو مبيعاتهما السنوية بنسبة 40 % و36 % على التوالي (الإيكونيميست).
لماذا تراجعت تكنولوجيا الخدمات الاستهلاكية رغم أنه مع كورونا أصبح العمل عن بعد جزءًا أساسيًّا من العمل وقد يصبح الجزء الأهم في يوم من الأيام؟ لأن هناك العديد من العوائق والحواجز لهذا النوع من العمل وإذا كان لها مميزات عديدة لكن ظهرت لها بعض العيوب، على سبيل المثال قد يجد المديرون الذين يتابعون أعمال موظفيهم عن كثب صعوبة في نقل ما يحتاجون إليه بالضبط عندما يعمل الجميع عن بعد. وفي دراسة من هارفارد بزنس ريفيو، خلاصتها أن وباء كورونا أدى إلى تسريع وتيرة العمل عن بعد في المنظمات القائمة على المعرفة، مما له فوائد ملحوظة مثل التوفير في تكاليف العقارات، وتوظيف واستخدام المواهب على مستوى العالم، والتخفيف من مشكلات الهجرة، ومكاسب الإنتاجية، كما يمكن للعمال الاستمتاع بالمرونة المكانية في شتى أصقاع العالم. لكن في الوقت نفسه، تشمل المخاوف كيفية التواصل عبر المناطق الزمنية، ومشاركة المعرفة التي لم يتم تقنينها بعد، وصعوبة التواصل الاجتماعي افتراضيًّا، وكيفية منع العزلة المهنية (تقلص الإبداع)، وحماية بيانات العميل، وتجنب التراخي.
من ناحية الإبداع والابتكار، تشير دراسة (Nature Human Behavior) إلى أن الشركات لديها سبب وجيه للاحتفاظ بمباني مكاتبها، حتى لو تم استخدامها بشكل أقل. فبعد دراسة الاتصالات (مثل الرسائل الفورية ومكالمات الفيديو) لستين ألف موظف في مايكروسوفت توصلت إلى أن العمل عن بُعد يجعل ممارسات تعاون الأشخاص «ثابتة ومنفصلة».. إذ يتفاعل الأشخاص بشكل أكبر مع أقرب جهات اتصالهم، ولكن بشكل أقل مع الأعضاء البعيدين عن شبكاتهم والذين يمكنهم تقديم وجهات نظر وأفكار جديدة لهم؛ وهذا يضر الابتكار. المحصلة هي أن الفرق البعيدة قد تؤدي أداءً جيدًا على المدى القصير، لكنها ستعاني في النهاية مع جفاف في الإبداع والابتكار.
إذا كانت جائحة كورونا قد غيرت أو سرعت في تغيير طريقة عمل الناس من خلال العمل عن بعد في المنزل وما تخلله من استراحات، فإنها كذلك قد زادت من التغيير في طريقة عدم عمل الناس خلال الإجازات أو عطل نهاية الأسبوع أو الأيام العادية خارج ساعات العمل.. كورونا غيرت ممارستنا للعمل وهي الآن تغير ممارستنا للإجازة. وقد اعترف أحد المديرين التنفيذيين أنه بعد أن انتقل إلى جزيرة يونانية لمدة أسبوعين في الماضي، فإنه يقضي الآن معظم الصيف هناك. إنه يكدح بضغطة زر خلال الأسابيع التي من المفترض أن يعمل فيها، ولكنه يقضي بضع ساعات في اليوم خلال ما يُفترض أن يكون إجازة.
جائحة كورونا غيرت من الطبيعة الثنائية للعمل والعطلة، وزادت من ممارسة النشاطات الترفيهية في المنزل مما أدى لطفرة في تكنولوجيا الخدمات، لكن يبدو أن الأمر لم يستمر بهذه السرعة وقد ينتهي الأمر بإفلاس بعض شركات التكنولوجيا الاستهلاكية أو اندماجها مع الشركات الكبرى ذات تكنولوجيا البنية التحتية.