محمد سليمان العنقري
الاقتصاد العالمي يواجه تحديات متشعبة وتحمل تناقضات عديدة بسبب تداعيات جائحة كورونا وما تبعها من مخاطر سياسية بعد أن شنت روسيا حرباً على أوكرانيا وظهر عامل التضخم المرتفع كأحد أخطر التداعيات ورغم أن لتداعيات تفشي كورونا دوراً كبيراً بالتضخم عالمياً حيث برز النقص بسلاسل الإمداد وإقفالات عطلت الكثير من القطاعات الاقتصادية إلا أن للحرب الحالية دوراً خطيراً في توسع آثار التضخم لأنه تحول لسلاح خفي في هذه الحرب فارتفاع أسعار الطاقة بات يهدد اقتصاد أوروبا التي تعتمد على امدادات الطاقة من روسيا بأكبر ركود تضخمي قد تشهده القارة العجوز بالإضافة لاحتمال إقفال عدد كبير من المصانع في أكبر دول القارة ألمانيا وبريطانيا وغيرهما مما يعني أن المشهد أصبح واضحاً بأن الحرب ليست آلة عسكرية تستخدم على جبهات القتال بل انتقل للعب بأوراق القوة الاقتصادية التي يملكها كلا الطرفين روسيا والغرب بقيادة أمريكا.
ومن هنا ظهر دور ورقة الطاقة التي أصبحت هي السلاح الفتاك بهذه الحرب فقد ارتفع سعر الغاز في أوروبا بأكثر من 400 بالمائة ومن المحتمل أن تزيد تكلفة الطاقة عموماً في أوروبا بحوالي تريليوني دولار فيما يصف بعض المحللين الغربيين بأن إجراءات دولهم لمواجهة تكلفة الطاقة من خلال برامج دعم للأفراد والأسر لن تقدم أي حلول عملية فقطاع الأعمال من مصانع وغيرها في أكبر دول أوروبا يطالبون حكوماتهم بالتوجه لحل سياسي مع موسكو والتوقف عن دعم أوكرانيا ورفع العقوبات التي فرضت على روسيا فهم لا يرون بأن عداءهم لها سيثمر عن نتيجة إيجابية لاقتصاد بلدانهم بينما ترى حكوماتهم وعلى رأسها أمريكا بأن روسيا تستخدم الطاقة كورقة ضغط وسلاح بهذه الحرب وهو ما تنفيه موسكو التي عملياً لا تتمنى خسارة السوق الأوروبية المهمة والكبيرة جدا وترغب ببيع الطاقة في كل الأسواق كما أعلن عن ذلك الرئيس بوتين لكن الجانب الغربي فضل تطبيق عقوبات تخطت 9000 عقوبة من بينها ما يشمل صادرات روسيا من النفط والغاز بما يخفض من مواردها ويؤثر بذلك في مجهودها الحربي حيث يبقى لهاتين السلعتين دور كبير بموارد الخزينة الروسية لكن بالمقابل يريدون أن تلتزم روسيا باتفاقيات تصدير الطاقة معهم دون إخلال بالإمدادات ويتجهون لفرض سقف لأسعار النفط والغاز الروسي أعلى بقليل من تكلفة الإنتاج إلا أن ذلك التوجه لا يستقيم مع ما يمكن تطبيقه فروسيا بدأت بالرد وقالت إنها ستقطع كلياً الغاز والنفط عن أي دولة تطبق سقف سعر لصادراتها لها من هاتين السلعتين وهو ما يعني احتمال وارد بارتفاعات حادة بالأسعار.
فموازين السوق ستصاب بخلل لا يمكن توقع تداعياته مهما كانت نظرياً محسوبة لهم من دعم مخزونات لفترة كافية لتوفير بدائل للنفط والغاز الروسي فهناك دول بقارات أخرى أيضا تطلب هذه السلع بنمو سنوي أكبر من نمو الطلب بأوروبا وأمريكا كما أن الطاقات الإنتاجية بما فيها الاحتياطية محدودة نظراً لتراجع الغرب عن الاستثمار بالوقود الاحفوري منذ سنوات وهو ما حذرت منه دول أوبك وكثير من صناع سوق الطاقة من مسؤولين وتنفيذيين بكبرى الشركات العالمية وحتى لو فكروا برفع القيود عن الاستثمار بالنفط والغاز من قبل شركاتهم فإنه لا يمكن أن تجازف أي شركة بضخ حجم كبير بالاستثمارات نظراً لعدم ضمان ألا يعودوا للتشدد مجدداً بما فرضوه حالياً من أنظمة لحماية المناخ ومن المعروف أن الاستثمار بالنفط والغاز للمدى البعيد دائماً وليس الشركات فقط ستجحم عن الاستثمار بل حتى الممولين وذلك لذات المخاوف فالعالم اليوم يعيش مرحلة معقدة في مواجهة ملف التضخم فلا البنوك المركزية تملك الحل السحري ولا أدواتها كافية لخفضه دون أن يحدث ركود باقتصاداتها كما أن العامل المؤثر هو الأحداث السياسية ولذلك سيبقى أثرها السلبي على التضخم ما دامت مستمرة دون حل فحرب الطاقة عملياً بدأها الغرب وليس روسيا من خلال العقوبات وأثرها البالغ ظهر عندهن بتهديد لقطاع الصناعة الأوروبي بتوقف الكثير من المصانع عن العمل لارتفاع تكلفة الطاقة وهو ما قد يخدم الصناعة الصينية والأمريكية التي تملك القدرة على الاستمرار بالإنتاج وهو ما سيسمح لها بأخذ حصص المصانع الأوروبية عالمياً كما تبرز صناعة البتروكيماويات والأسمدة الخليجية كمستفيد لأنها ستحصل على حصص من الصناعات الأوروبية بأسواق عديدة بمختلف القارات فالسعودية تنتج حوالي 10 بالمائة من إجمالي إنتاج البتروكيماويات عالمياً وبتكاليف منافسة.
قادة الغرب يتهمون روسيا بأنها تفتعل حرب طاقة عليهم بينما في الحقيقة لو نظروا بالمرآة لعرفوا من المتسبب بها كما يصف ذلك أغلب المحللين عالمياً أما من حيث الآثار فهي غير معلومة بدقة لكنها ستبقي الأسعار مرتفعة وما يحدث من تقلبات لا يعكس واقع السوق فما زالت التوقعات بعودة النفط إلى ما فوق 100 دولار مرتفعة وقد تستمر بهذه المستويات لسنوات أما أبعاد كل ما يحدث فهو بالتأكيد تغيير بخارطة تحالفات أوروبا الاقتصادية وتوجهها لدول تملك الغاز والنفط خصوصا بقارة إفريقيا بينما ستركز روسيا على آسيا وإذا لم تستطع أوروبا وضع حلول تحفظ فيها صناعاتها فقد يغير ذلك الوجه الاقتصادي للقارة العجوز لعقود طويلة لأن مصانعها ستنتقل لدول تكلفة الطاقة فيها أقل فهذه الحرب سيستفيد منها دول لديها مقومات جذب تلك المصانع والاستثمارات وتعد دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة من بين أكثر الدول جاهزية لاستقبال تلك الاستثمارات لتوفر الطاقة الرخيصة والموقع الجغرافي الذي يتوسط العالم والبنية التحتية الجيدة والتطور بالأنظمة والتشريعات الجاذبة للمستثمرين.