د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تعقب كثير من الكتاب المتنبي، فجمعوا بعض أشعاره التي يجد فيها القارئ ما لا يهش له أو يعتاد عليه، وسموها بأغلاط المتنبي أو مساوئه، وربما ذكرها بعضهم تحت اسم مشكل شعر المتنبي، أو المآخذ على المتنبي، وهي ظاهرة ليست خاصة بالمتنبي ولكننا نخصه بها في المقال لأنه متوجه إليه.
ومن يقرأ شروح المتنبي يجد أن الشراح قد خصوا أبياتاً بعينها يكثرون حولها الجدل من جهة المعنى، فيذكرون أقوال النقاد فيها، ويبحثون عن الملمح الفني الذي يمكن أن يجعل البيت ذا قيمة أو يجعل النقد ذا قيمة أيضاً، ويعد نوعاً من الاعتذار للشاعر والدفاع عنه أمام سهام خصومه.
والبحث في مساوئ المتنبي يسعى إلى الكشف عن ملامح السوء فيها، وكيف يمكن أن نحدد كيف أصبح البيت هذا سيئاً، والعلاقة بينه وبين ما يسمى بالتعقيد اللفظي عند البلاغيين، أو التعقيد المعنوي، وهل يمكن أن نخرج من قراءة مساوئ المتنبي بنظرية للسوء، ثم هل السوء جيد أم رديء، أو لنقل هل يمكن أن يكون السوء مذهباً أدبياً.
لا أقصد إلى القول بأن معرفة السيئ تبين لنا الجميل على طريقة القول المشهور بضدها تتميز الأشياء، وإنما أقصد أن نصل إلى نظرية تكشف لنا عن مفهوم السوء الأدبي عند النقاد العرب القدماء، وهو ما قد لا يكون بالضرورة سيئاً عند سواهم من الأمم أو النقاد، الأمر الذي يساعد في الكشف عن الشخصية العربية في النقد القديم.
هل الحكم بالسوء بسبب الأخطاء اللغوية وركاكة التعبير وعدم القدرة على الإيضاح أم هناك ألفاظ تنافي الفصاحة كما يقول البلاغيون، فيأتي فيها الهجنة أو الركاكة والتكرار والغثاثة وتنافر الحروف، وعدم المناسبة للسياق فيما يتصل باللفظة، وعدم وضوح المعنى. إذاً السؤال الآن ما هو السوء، وما هو المشكل الذي جعل القدماء يقفون عنده؟ وهل السوء هو المشكل أم أن هناك سوءاً وهناك مشكلاً خاصة أننا نجد في بعض الأحيان الأبيات التي تدرج تحت «المشكل» ليست مشكلة البتة. وكذلك القول في (المآخذ)، وإن كان مصطلح (المآخذ) أكثر سعة من الأغلاط أو المساوئ، ثم هل هذه الأغلاط أو المساوئ فعلا مساوئ أم أنها اختلاف في الذوق؟
حين ننظر في كتاب مساوئ المتنبي للصاحب نجد أن مآخذه تتمثل في الفارق في الذوق، فالصاحب كاتب ووزير والمتنبي شاعر، وذوق الكاتب والوزير يختلف عن ذوق الشاعر، وواضح هذا في المآخذ التي يأخذها على المتنبي، وكثير منها ما يتصل بأدب المخاطبة، والفوارق الاجتماعية، فهي لا تليق أن يخاطب بها الملوك أو يتحدث فيها عن والدة ملك، كالمآخذ التي ذكرها في قصيدة المتنبي في رثاء والدة سيف الدولة، إذ نراه يأخذ عليه قوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي
وإن جانبت أرضك غير سال
فيرى أن هذا الرثاء لا يليق بمن يخاطب ملكاً في أمه، وكأنه يرثي بعض أهله، ولكن المتأمل لشعر المتنبي بوجه عام في سيف الدولة يجد أن الصلة بين الشاعر والأمير لا تقوم على الصلة المعتادة بين الشعراء والأمراء، وإنما هناك منزلة خاصة أنزل فيها المتنبي نفسه، تظهر في قصيدته مثلاً «واحر قلباه ممن قلبه شبم». فعلى ميزان «الصاحب» لا تصح هذه القصيدة في المدح فضلاً عن أن تكون في أمير، فالتأوه في أول البيت والشكوى من حرارة القلب في مقابل من قلبه بارد لا يحس به لا يعد في المدح ولا في العتاب وإنما في الغزل وشعر الحب، ثم كيف يصف قلب الأمير بالبرود؟
ولا يمكن أن يقال بأن هذه مقدمة غزلية على طريقة الشعراء في مقدمات قصائدهم، لأنه يقول بعد ذلك:
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب السيف الدولة الأمم
صحيح أن محبة الأمير في قلوب الناس مما يمدح به عادة، لكن ليس إلى الحد الذي يصيب جسد المحب بالنحول، فإن هذا ينقله إلى الغرام ويجعله مبالغة غير مقبولة، ومع ذلك فإن هذه القصيدة تعد من غرر المتنبي، ومن روائعه.
وكذلك قصيدته في رثاء خولة أخت سيف الدولة، ذلك الرثاء الذي حدا ببعض الدارسين إلى القول بالمشاعر الخاصة التي يكنها المتنبي لشقيقة الأمير بناء على هذه القصيدة، ولم يقولوا بمثلها عن والدته بالرغم من الحديث عن الشوق الذي أخذه الصاحب على بيت المتنبي.
وهذا يدفعني إلى القول: إن الموقع الذي كان فيه المتنبي بالنسبة لسيف الدولة مختلف عن المواقع المعتادة للشعراء، أو سواهم من مخالطي الأمير أمثال الصاحب (وإن كان الصاحب لم يخالط سيف الدولة)، ما يمنحه القدرة على ارتياد طرائق أخرى للقول، يكون من ضمنها الموقع الذي يحتله الشاعر بالنسبة للممدوح أو للمرثي بعيداً عن الاعتبارات الاجتماعية التقليدية، وهو ما لم يحسب له الصاحب حساباً في مآخذه تلك.