أماني عبدالرحمن
عن غربة المنازل القديمة ووحشتها، عن عمرٍ طويل وممتد وشاسع انقضى كأنه لم يكن، عن جيلٍ بأكمله سار نحو الفنَاء، أحاول أن أكتب، أن أترجم مشاعري، هذه المشاعر التي تركتها بي جولتي في منازل أجدادنا القديمة، منازل الحجارة التي شُيّدت بعناء ولكن بدقةٍ أيضًا، مما جعلها تصرّ على وقوفها في مكانها حتى بعد عشرات السنين. أفكر في جدي، وفي إخوته الذين لا أعرفهم، وجيرانهم وأصدقائهم ومعارفهم، في حياتهم التي تقاسموها هناك، في نزاعاتهم وحكاياتهم ومشاكلهم وهمومهم وأفراحهم، في الأسرار التي طُويت معهم، وفي الحكايا المشطورة والناقصة والمكتملة، في كل ما كان وما لم يكن، في القصص التي رحلت معهم ولا وسيلة لنا لنخمنها أو لنعرفها، أتأمل كل هذا وأود لو باليد حيلة لأعرف أكثر..
شعرت أثناء وقوفي في ديارهم القديمة بقزامة حياتي وما عشته وما سأعيشه بجانب حيواتهم، رأيت ما الذي يعنيه أبو ذؤيب الهذلي حينما قال في عينيته الشهيرة:” كم من جميعِ الشملِ ملتئمِ القوى __ كانوا بعيشٍ قبلنا فتصدعوا” هذا البيت الذي لطالما توقفت عنده وتفكرت في معناه، هذه المرة الأولى التي أحس فيها بدقة معناه ووضوح فكرته، وأنا أقف أمام آثار زمانٍ وجيلٍ مات غالبيتهم بعد حياةٍ ضخمة وفضفاضة حَوَتْ في طيَّاتها كل ما تعنيه كلمة «حياة». تفكرت في غدٍ سوف يأتي ولا يبقى منا سوى ما بقي منهم الآن، لمست أيضًا الأسباب العديدة وراء شخصياتهم التي لطالما اشتكينا منها وأبدينا تضجرنا، تلك الحياة التي سحقتهم لكنهم خرجوا من تحتها بشخصياتٍ صلبة وقاسية وقوية، فهمت بأنه من خلال الماضي يصبح فهم الحاضر أسهل، فِهم طريقة تفكير أجدادنا، وتفهّم آرائهم التي لا نتفق معها معظم الوقت، إننا نتجذر أكثر حين نلمس الماضي الذي يخصّنا، نشعر بقيمة الحياة التي نعيشها، وبقيمة ما حاربوا أجدادنا لأجله، بقيمة أبسط الأشياء التي تأتينا بكل سهولة الآن لكنها كانت فيما مضى من أصعبها وأعسرها، نحتاج للماضي، نحتاج للقصص القديمة، للآثار الملموسة، فمن لا ماضي له؛ لا حاضر له.