د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
في العربية ظاهرتان مهمتان هما (همزة الوصل) و(هاء السكت)، وهما صوتان يجتلبهما المتكلم عند الحاجة إليهما، فهمزة الوصل يؤتى بها لتسويغ نطق ألفاظ بدأت بساكن؛ إذ لا يبدأ في العربية بساكن، نحو: (استطاع، ابنك، القدوم)، وأما هاء السكت فهي هاء مبنية على السكون تلحق ألفاظًا منتهية بحركة يراد الوقف عليها، والوقف على متحرك غير جائز فألحقت الهاء لتكون محلّ الوقف، نحو (عِهْ، كلاميَهْ).
ومن الألفاظ التي يجوز أن تلحقها (هاء السكت) الاسم (ثَمَّ). قال ابن يعيش «وأما (ثَمَّ)، فإشارةٌ إلى المكان البعيد، جعلوا لفظَه وصيغتَه تدلّ على بُعْد»(1)، ولك عند الوقف على (ثَمَّ) أن تقف بالسكون، أو تُلحق هاء السكت لتقف عليها، قال السيرافي «فإذا أشرت إلى مكان منتح متباعد، قلت: (ثَمَّ) إذا وصلت الكلام، فإذا وقفت عليه وقفت بالهاء، فقلت: (ثَمَّه).
وإنما ألحقت الهاء إذا وقفت؛ لأن كل متحرك ليست حركته إعرابًا، جاز أن يلحق آخره هاء في الوقف؛ نحو: ( كيفَ) و(أينَ) و(هيَ) و(هوَ)؛ فتقول: (كيفَه) و(أينَه) و(هيَه) و(هوَه).
ويجوز ألّا تلحق هاء؛ فتقول: (جئتك من ثَمَّ)»(2).
ومعنى هذا أن لهذا الظرف ثلاث أحوال في النطق: تشديد الميم وفتحها، في درج الكلام، وتشديد الميم وتسكينها في الوقف، وتشديد الميم وفتحها مختومة بهاء السكت في الوقف.
وبقيت حالة رابعة هي تشديد الميم وفتحها وختمها بتاء تأنيث معقودة (ثَمَّةَ).
وهي حالة أطبق على استعمالها الناس خاصتهم وعامتهم؛ ولكنها لقيت إنكارًا، أنكرها أستاذنا الجليل د.
بهاء عبد الرحمن، إذ قال في تغريدة له «من الأخطاء الشائعة بين العوام والخواص إلحاق تاء التأنيث بالظرف ثَمَّ، فيقولون (ثَمَّةَ داري) مثلًا، أي: هناك داري(3)، والصواب: ثَمَّ، ولا تلحق بها تاء التأنيث»(4)، ومثله د.
سليمان العيوني قال في تغريدة له «والصواب أن (ثَمَّ) لا تدخلها تاء التأنيث، وأن هذا لم يرد في اللغة.
والوارد في ذلك دخول هاء السكت عليها، فلذا تجدها حيث يمكن الوقف عليها، نحو: اجلس ثَمَّهْ»(5).
وما جزم به الأستاذان الفاضلان يدعو إلى التوقف لأمرين: أحدهما أن بعض كنوز اللغة لما تنشر وليس ببعيد أن يكون اللفظ قد ورد فيها، وأما الأمر الآخر فهذه المواطن التي ورد فيها اللفظ وهي مواطن وصل لا مواطن وقف.
مثال ذلك ما جاء في قول سيبويه «ومَن رفع [زيد] ثَمَّةَ رَفَعَ زيدًا ها هنا»(6).
وفي قوله «فأدخلوا الفِعال ههنا كما أدخلوه ثَمَّةَ حين قالوا: إفالٌ وفِصالٌ»(7).
ومثاله قول المبرد «وحد الظّرْف أَن يكون بعد الْمَفْعُول بِهِ وَمن ثَمَّةَ جَازَ لقِيت فِي دَاره زيدًا»(8).
وقول الرضي «فمن ثمَّةَ لا نقول إن هذه الزيادات للإلحاق وإن صارت الكلم بها كالرباعي»(9)، وقوله «مع العلم أن ثمة اختلافًا كبيرًا»(10).
وقد بحثت في المكتبة الشاملة عن (ومن ثمة) فوجدتها وردت في الكتب في (1180موضع).
وليس يسهل القول إنّ (ثمة) في كل تلك المواقع هي (ثمه) بهاء السكت لا تاء التأنيث، ومن يرد قول ذلك قد يحتاج إلى تأويل النصوص وليها بما لا يناسب سلامة العربية وبيانها.
ولعل الذي أجاء الأستاذين الفاضلين إلى الجزم بما جزما به أنّ سيبويه في ما وجد من نسخ كتابه لم يأت على ذكرها؛ إذ اكتفى بالحديث عن الوقف على (ثَمَّ) بالهاء أو بلا هاء، وأن النحويين من بعده لم يذكروها، ولا جدال أن هذا أمر لافت؛ ولكن ليس من المعقول نفي ظاهرة؛ لأن سيبويه لم يذكرها، ومن المعلوم أن سيبويه، على جلالة قدره، بشر قد يفوته الشيء، وهذا أمر كشف عنه بعض الباحثين، قالت د. خديجة الحديثي: «وقد استطعنا أن نقرر أن سيبويه لم يكن دقيقًا في ادِّعائه حينما قرّر في كثير من المواضع أنّ ما ذكره في (الكتاب) هو كل ما ورد عن العرب، وأنّه لم يأتِ من بناء كذا لفظ، أو لم يأتِ من هذا البناء اسم أو صفة، ونحو هذا.
وقد رددنا عليه في كثير من المواضع وأثبتنا أن الباحثين ذكروا بعده معظم ما قال عنه إنه لم يرد عن العرب، أو لم يُسمع له بناء، وبذلك أكملنا ما نقص في الكتاب»(11).
وليس لدينا نصّ نحوي على الظرف (ثمة)؛ ولكنَّ ثَمَّةَ نصَّين مهمين في نظري: النص الأول قول ابن سيدة (ت 458ه) «وثَمَّ بمعنى هُناكَ.
وثَمَّةَ أَيْضًا بمعنى ثَمَّ»(12)، وقوله (أيضًا) يدل على أن (ثمة) غير (ثَمَّ) وأنها بمعناها.
والنص الآخر الذي ذكره أحد المحاورين هو قول النووي (ت676ه) «قَوْلُهُ (وَالْمَسْجِدُ فِيمَا ثَمَّةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ (ثَمَّةَ)، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ (ثَمَّ) بفتح الثاء و(ثمةَ) بفتح الهاء بِمَعْنَى (هُنَاكَ وَهُنَا)؛ فَثَمَّ لِلْبَعِيدِ وَثَمَّةَ لِلْقَرِيبِ»(13).
والراجح عندي أنّ (ثَمَّةَ) صحيحة لورودها في نصوص لا يحسن السكوت عليها، ولما جاء في قولي ابن سيدة والنووي، ولاستقرارها في استعمال الناس حتى عمدت إلى تقعيدها كتب الإملاء الحديثة(14) وكتب النحو(15).
(1) ابن يعيش، شرح المفصل، 2/ 370.
(2) السيرافي، شرح كتاب سيبويه، 1/ 99-100.
(3) الذين ذكروا اللفظ ذكروا أنه بمعنى (هنا) وأما (ثَمّ) فبمعنى (هناك).
(4) انظر: @Bahauddeen: https://twitter.
com/Bahauddeen/status/1282903622133714945?s=08 (5) انظر: https://twitter.
com/sboh3333/status/1532091326921048065 (6) سيبويه، الكتاب، 1: 239.
(7) سيبويه، الكتاب، 3: 614.
(8) المبرد، المقتضب، 4: 102.
(9) الرضي الأستراباذي، شرح شافية ابن الحاجب، 1: 53.
(10) الرضي الأستراباذي، شرح شافية ابن الحاجب، 1: 34.
(11) خديجة الحديثي، أبنية الصرف في كتاب سيبويه (ط1، مكتبة النهضة/ بغداد، 1385ه-1965م) ص442.
ينظر: أبوسعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، فوائت كتاب سيبويه من الأبنية الصرفية، تحقيق محمد عبد المطلب البكاء (ط1، وزارة الثقافة والإعلام/ بغداد، 2000م).
(12) ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، 10: 136.
(13) النووي، شرح مسلم، 40:15 .
(14) ينظر: نصر الهوريني، المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية، ص: 123.
عبدالعليم إبراهيم، الإملاء والترقيم في الكتابة العربية، ص: 94.
عبدالسلام هارون، قواعد الإملاء، ص: 65.
(15) ينظر: مصطفى الغلاييني، جامع الدروس العربية، 3: 62.
عباس حسن، النحو الوافي، 1/ 329، 335.
سعيد الأفغاني، الموجز في قواعد اللغة العربية، 114.