مع ما تعرض له مهرجان الجنادرية للثقافة والفنون، من انتقادات عديدة في الصحافة الورقية آنذاك، ومن ذلك تكرار أسماء الضيوف في كل دورة جديدة، في حين لم توجه الدعوة لبعض الأسماء الشهيرة، فإنني أراه ظاهرة ثقافية جميلة، جاء متزامنا - تقريبا- مع انطلاق معرض الرياض بين الأمس واليوم، واستطاع المهرجان تجسيد تراث المملكة العربية السعودية وثقافتها، وربط الأجيال الجديدة بماضيها وتراثها، وذلك قبل ثورة الاتصالات والمعلومات بسنوات طويلة، وساهم في مد جسور التعارف ما بين المثقفين في كل أرجاء الوطن العربي، وبعضهم جاء من المهاجر البعيدة؛ للمشاركة فيما يطرح في ندواته الثرية من قضايا مهمة.
فما كنت أحلم وأنا الشاب الصغير في أواخر الثمانينيات الميلادية أن أرى مئات الشخصيات اللامعة من أدباء ومثقفين وفنانين، يدعون لحضور مهرجان الجنادرية، الذي كانت ترعاه وتشرف عليه آنذاك رئاسة الحرس الوطني.
ويجتمعون في كل عام في بهو فندق قصر الرياض في حي المربع - كنا نطلق عليه يومئذ (فندق الجنادرية)؛ لأنه ظل لسنوات طويلة مقرا لضيوف المهرجان، وكانت فرصة لتبادل الآراء والأفكار والمطبوعات.
ومن تلك الأسماء التي حظيت بمقابلتها شخصيا في دوراته السابقة، أذكر منهم: أنيس منصور، ومحمود السعدني، ونقولا زيادة، ورجاء النقاش، ومصطفى الشكعة، وعبده بدوي، وحسن قرشي، ومحمد الرميحي، ويعقوب الرشيد، وشفيق الحوت، ومنح الصلح، وجهاد الخازن، وجهاد فاضل، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وعبدالسلام العجيلي، والطيب صالح، والشاعر سليمان العيسى، وعبد الملك مرتاض، وسمير عطا الله، ونجم عبدالكريم، وعبداللطيف الأرناؤوط، وخالد القشطيني، وفاروق شوشة، ومفيد فوزي، وعبدالكريم الأشتر، وعبدالهادي التازي، وعثمان العمير، وعبدالقادر القط، ومن الفنانين: محمد الموجي، وكمال الطويل، ومحمود يس، وأسعد فضة، والمخرج اللبناني محمد سلمان، والمؤرخ الفني حسن إمام عمر، الذي كان يقدم برنامج (نجوم لها تاريخ).
ومن الأدباء العراقيين الذين كنت أتطلع إلى رؤيتهم في كل دورة جديدة الأساتذة: هلال ناجي، وعلي جواد الطاهر، وحارث طه الراوي، ويبدو أنهم لم يتلقوا دعوات رسمية، ولكن إدارة المهرجان استطاعت إقناع الشاعر محمد مهدي الجواهري للمشاركة في إحياء أمسية شعرية، فامتلأت قاعة الملك فيصل بحضور مكثف، وحظيت تلك الأمسية الجميلة بتغطية إعلامية جيدة.
كان بهو فندق قصر الرياض حركة دائبة لا تكاد تهدأ، لاسيما بعد عودة الضيوف ليلا من قاعة الملك فيصل للمؤتمرات، وكانت إذاعة الرياض تنتقل طيلة أيام المهرجان إلى فندق قصر الرياض، وتتخذ لها مكاناً في إحدى الغرف، ثم يُنسق مع الضيوف لإجراء بعض الحوارات، وقد شهدت بنفسي بعض تلك الحوارات المهمة مع بعض الضيوف، وكان من أنشط المذيعين في أيام المهرجان الأخ الدكتور محمد العوين.
كما كان يكثر وجود الصحفيين في بهو الفندق- وأكثرهم من المتعاونين- لاصطياد بعض الضيوف غير المستهلكين في وسائل الإعلام آنذاك، وفي بعض الأحايين يزداد الزحام في بهو الفندق، فلا يجد الصحفي مكانا للجلوس مع الضيف أثناء إجراء الحوار! وقد كتبت نشرة المهرجان في عددها السادس والصادر في عام 1426هـ، هذا الخبر الطريف بعنوان (فندق قصر الرياض والحجز المسبق!) «تحول فندق (قصر الرياض) مقر سكن الضيوف إلى منطقة جذب من نوع خاص لمرتادي الفندق من الضيوف والزوار؛ نظرا لما يشهده من حوارات ممتعة ما تلبث أن تتحول إلى نقاشات ساخنة، ولابد لرواد البهو من الحجز المسبق للمقاعد، خاصة في أوقات الذروة؛ نظرا للإقبال الكبير على الجلوس في البهو، مما جعل بعضهم يطالب إدارة الفندق بزيادة عدد الكراسي».
وأكثر ما كان يشدني خلال أيام المهرجان، هو المركز الإعلامي المتميز، وفيه كانت توزع الكثير من الكتب والمطبوعات، - بعضها كتب إعلامية مصورة عن النهضة في المملكة- عدا توزيع كل الصحف المحلية بشكل يومي، فيتخاطفها ضيوف المهرجان والزوار، وتنفد بعض الصحف بسرعة قبل صلاة الظهر؛ فلقد كانت الصحافة الورقية تعيش - آنذاك- في ذروة نجاحها وازدهارها، كما كانت توزع نشرة المهرجان اليومية، متضمنة بعض أخبار المهرجان وما تقام على هامشه من فعاليات وندوات ونشاطات أخرى، ومن دواعي سعادتي أنني مازلت محتفظا بمجموعة من أعداد نشرة المهرجان التي كانت تصدر عن اللجنة الإعلامية بالحرس الوطني.
ومن أصعب المواقف التي تحدث خلال أيام المهرجان حينما أجلس مع أحد الضيوف من الخارج، ثم يستأذن مني فجأة؛ لتناول طعام العشاء، فأضطر للمغادرة إلى أحد المطاعم الشعبية معتدلة الأسعار والقريبة من الفندق، ثم العودة من جديد لاستكمال السهرة، التي كانت تمتد إلى ما بعد الساعة الواحدة صباحا، فأعود إلى البيت وأنا منهك القوى ومشتت الذهن؛ من آثار السهر ومن الإفراط في شرب الشاي! ومن التقاليد المعروفة في مهرجان الجنادرية إقامة حفل افتتاح النشاط الثقافي مساء يوم الخميس، وكان الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله- يفتتح النشاط الثقافي كل سنة، ويلقي كلمة موجزة بهذه المناسبة الثقافية، وقد شرفت بالسلام على سموه مرات عدة.
وأذكر في إحدى دورات المهرجان أنه أشار في كلمة الافتتاح إلى أن العالم كله سيكون كالقرية الصغيرة؛ بسبب سهولة التواصل بين الناس مستقبلا! هذا بعض ما تبقى في ذاكرتي من ذكريات قديمة عن مهرجان الجنادرية للثقافة والفنون- سقتها في هذا المقال- الذي كانت تنظمه رئاسة الحرس الوطني سابقا، وقد انقطعت صلتي بالمهرجان وبحضور فعالياته ومتابعة أخباره، قبل أن ينتقل إلى وزارة الثقافة بسنوات، ليصبح تحت مظلتها وإشرافها.
** **
- سعد بن عايض العتيبي