رؤية - خالد الدوس:
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع العالم الأمريكي بيتر بلاو (1918- 2002). رائد نظرية التبادل الاجتماعي ومؤسس علم الاجتماع التنظيمي المعاصر.
ولد في العاصمة النمساوية فيينا وأكمل تعليمه العام في موطنه, ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1939 على متن سفينة لمواصلة تعليمه الجامعي هناك, حيث التحق بكلية المهورست في إلينوي وحصل على شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع عام 1942م وأصبح مواطناً أمريكياً, وفي عام 1943 غادر إلى أوروبا ونال درجة الماجستير من جامعة كامبردج عام 1950م, ثم أكمل أطروحة الدكتوراه مع العالم الاجتماعي المعروف روبرت ميرتون في جامعة كولومبيا ونالها عام 1952م بعد أن تأثر بالعلماء جورج سيميل, وجورج هومانز, وبول لازارسفيلد, حيث تركزت اهتماماته الرئيسية في دراسة علم الاجتماع التنظيمي, والهياكل الاجتماعية, والبيروقرراطية, والتقسيم الطبقي.
وتوسعت مداركه السوسيولوجية وأفقه العلمي بعد أن وضع نظرية مبكرة «لديناميات البيروقراطية», وفي عام 1953 منح أستاذاً بجامعة شيكاغو, وقام بالتدريس في هذه الجامعة العريقة حتى عام 1970م, وكان تخصصه الاجتماعي الدقيق في الهياكل التنظيمية والاجتماعية.. وقام بصياغة نظريات تتعلق بالعديد من الظواهر الاجتماعية بما في ذلك الحراك التصاعدي, والفرصة المهنية, وعدم التجانس. وكان أحد أوائل المنظرين الاجتماعيين الذين استخدموا إحصاءات عالية المستوى لتطوير علم الاجتماع كعلم تخصصي يستخدمون البيانات التجريبية على المستوى الكلي لنظرية الربط,كما أنتج نظريات حول كيفية تأثير الهياكل السكانية على سلوك الإنسان,كما كان العالم الفذ بيتر بلاو من رواد «النظرية التبادلية الاجتماعية» التي تعد جزءاً من النظرية التفاعلية الرمزية طالما أنها تنظر إلى طبيعة التفاعل المتبادل بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، والمجتمعات.
ولاشك أن النظرية التبادلية الاجتماعية تؤمن أن الحياة الاجتماعية ما هي إلا عملية تفاعلية تبادلية بمعنى أن أطراف التفاعل لا يعطي للطرف الآخر فقط بل يأخذ منه, والأخذ والعطاء بين الطرفين المتفاعلين إنما يسبب ديمومة العلاقة التفاعلية وتعميقها, في حين إذا أسند الفرد علاقته التفاعلية على مبدأ الأخذ دون العطاء أو العطاء دون أخذ فإن العلاقة لابد من أن تفتر وتضعف بل تنقطع وتتلاشى عن الأنظار.! ولذلك كان هذا العالم المفكر من رواد هذه النظرية مع العلماء الأوائل البارزين جورج هومنز (1910-1989) وريتشارد امرسون (1926-1982), ولكن المنظور الذي قدمه (بلاو) في هذه النظرية يختلف عن بعض المنظورات الأخرى التي قدمها أصحاب ورواد نظرية التبادل الاجتماعي الذين اهتموا بالجوانب الفردية النفسية, وأما بلاو فقد اهتم بالتبادل الاجتماعي على مستوى البناء الاجتماعي, والتعرف على أثر التبادلات في ظهور النظام الاجتماعي العام, والشرعية, والتمايز في المكانات, والقوة داخل المجتمع.
وقد ميّز( بيتر بلاو) بين نوعين من المكافآت في سياق هذه النظرية وهي: مكافآت فعلية: أو جوهرية مثل الحب والإعجاب. ومكافآت عرضية أو خارجية: مثل النقود. كما وضع عدداً من القضايا لنظرية التبادل الاجتماعي وهي قضية مبنية على أسس عقلانية, وأسس تبادلية, وأسس قانونية, وأسس المنفعة الجدية, وقضية مبنية على أسس غير متوازنة.كما أن من أهم أعماله العلمية دراسة «ديناميكية البيروقراطية»,التي تم تأصيلها وتفصيلها في كتابه الأول عام (1955).
وفي سياق البيروقراطية حاول بيتر بلاو تعديل نموذج العالم الألماني الشهير «ماكس فيبر» البيروقراطي وظهرت تلك الإسهامات لمسايرة روح العصر وللتغيرات التي طرأت على المجتمعات الغربية (الرأسمالية) وتحديداً مع الحرب العالمية الثانية, ومن تلك الفترة شرع الباحثون الغربيون يؤكدون في دراستهم للتنظيمات على أهمية ودور جماعات العمل باعتبارها أساس تحقيق وإنجاز العمل وكذا على أهمية المشاركة العمالية. واستطاع بلاو من تعديل نموذج فيبر وكان هدفه الحقيقي من وراء ذلك هو زيادة الكفاءة والفعالية للعمل التنظيمي حتى تحقق المؤسسات الرأسمالية أهدافها كاملة. وفي ضوء إسهاماته العلمية ومنجزاته البحثية حصل بلاو على امتيازات ملحوظة عن إنجازاته التي تشمل انتخابه للأكاديمية الوطنية للعلوم, والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم, كما شغل منصب رئيس الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع عامي 1973-1974.
ولذلك يعتبر (بلاو) من علماء التنظيم الاجتماعي المرموقين الذين وجدوا في علم الاجتماع التنظيمي ميداناً خصباً ومجالاً ثرياً ليسهم بأفكاره المتعددة في وضع أسس علمية في هذا الميدان الحيوي, وعدم الفصل بين علم التنظيم وعلم الاجتماع حيث اشتهر بدراسته تاريخ الفكر الاجتماعي بعد أن دمج نظرية التبادلية الاجتماعية مع نهجه المؤسسي للتحليل الاجتماعي والتنظيمي, وبالتالي اعُتبر المنظر الأشهر في علم الاجتماع الأمريكي في القرن العشرين (فكراً وعلماً وبحثاً وتطبيقاً) بعد أن لعب دوراً ريادياً في تشكيل مجال علم الاجتماع المعاصر من خلال دراساته العلمية ومنجزاته الغنية (سوسيولوجياً), ومنها كتابه الرائع (التبادل والقوة في الحياة الاجتماعية) عام 1964، الذي ذاع صيته بعد أن نشر كتابه الأول (ديناميكية البيروقراطية) عام 1955م , وكتاب (نظرية التكامل الاجتماعي 1960م. وكتاب (بناء المنظمات) عام 1971م , وكتاب (تنظيم العمل الأكاديمي) عام 1973 وكتاب (مسار دائري لنظرية البنية الكلية) عام 1995, وغيرها من المؤلفات التي أثرت مكتبة علم الاجتماع وتراثه الأصيل.
تميزت أفكار العالم (بلاو) بأنها أخذت طابعاً نقدياً للأفكار والتصورات الاجتماعية والثقافية والفلسفية والتنظيمية التي كانت قد ظهرت من قبل.كما تبنى بعض الأساليب الهامة التي يمكن عن طريقها دراسة المشكلات الاجتماعية التي ظهرت في المجتمع الأمريكي ومن هذه الأساليب والوسائل التي ركزت بشكل أساسي على تحليل التغير الاجتماعي, ومحاولة إعادة تنظيم وتشكيل الاتجاهات التطورية نحو خدمة المجتمع العام. وتبني سياسة الإصلاح الاجتماعي.
توفي العالم الشهير (بيتر بلاو) في 12 مارس 2002 م متأثراً بمتلازمة الضائقة التنفسية الحادة وكان يبلغ من العمر 84 سنة تاركاً تاريخاً حافلاً بالمنجزات العلمية والبصمات السوسيولوجية في تراث علم الاجتماع التنظيمي بعد أن صاغ مفاهيم نظرية أساسية ومداخل السوسيو- تنظيمية عالجها بصورة نقدية واقعية في هذا الميدان الخصيب لتصبح مرجعاً هاماً لكثير من علماء الاجتماع المعاصرين. يعاد تقييمها حديثاً لتحليل أهميتها وقيمتها المعيارية في علم الاجتماع التنظيمي.