د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تحدث السيد/ باول رئيس بنك الاحتياطي الأمريكي لمدة 8 دقائق فقط، كانت كفيلة بخسارة أسواق الأسهم العالمية ما قيمته أكثر من تريليون دولار، رغم أن ما تحدث عنه، كان معظمه متوقعاً، فالتضخم موجود ومعلوم أيضاً لدي الأسواق، ومعلوم أيضاً أنه في طريقه للزيادة، ومعلوم أن إحدى الأدوات لكبح جماحه هي زيادة الفائدة، كما أن العالم أجمع يعلم ويعيش الأحداث الواقعة في شرق أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، والأسواق تعلم أيضاً أن أسعار الطاقة أصبحت أعلى مما كانت عليه من قبل، والأسواق تعلم أن أوروبا تعاني من نقص الطاقة، بينما الولايات المتحدة الأمريكية لديها ما يكفي من طاقة، والعالم يعلم أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج حريصة على إمداد الأسواق بما يلزم من طاقة، وهو نهج سارت عليه منذ سنوات عديدة وما زالت، لهذا فإن حديث السيد/ باول، وردة الفعل إنما هي تعكس الحالة النفسية لدى المستثمرين، وكما يقال رأس المال جبان، برغم كل ذلك فإن البنك الاحتياطي لم يتخذ قراراً، وإنما تحدث رئيسه فقط عن ما هو متوقع طبقاً للمعطيات التي ستكون سائدة في وقت اتخاذ القرار في المستقبل، يعني أن الأمر لا يعدو كونه توقعاً، ولهذا فقد توقع أن الأسر الأمريكية سوف تعاني من التضخم، وعليها أن تصبر وتتحمل.
الأسواق الناشئة في الدول ذات القدرات المحدودة، سوف تستشرف مستقبلاً لا يحمل بين طياته أياماً واعدة، فهي تتوقع أن ترتفع تكلفة الدين نتيجة لارتفاع سعر الفائدة، كما تتوقع تلك الأسواق أن تزيد تكلفة المواد المستوردة نظير سيادة التضخم، واعتمادها في أغلب حاجاتها الضرورية على الاستيراد من الخارج، كما أن بعضاً من تلك الدول تخشى من الاضطرابات الاجتماعية نتيجة لارتفاع وغلاء المعيشة الذي لابد أن المواطن سوف يتحمله، إضافة إلى انخفاض معدل النمو، وتأخير الكثير من المشاريع اللازمة لتشييد البنية التحتية التي تحتاجها تلك الدول، لا سيما أن أغلبها تفتقر إلى بنية تحتية كافية وضرورية لاقتصادها، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، والتوسع في الإنتاج المحلي للحد من تكلفة الفاتورة النقدية للدول التي تستورد منها، وفي الغالب فإن الحلول المتوفرة والممكنة لدى تلك الدول مزيدٌ من الاقتراض من الأسواق، وهذا يعني مزيداً من عناء المواطن في المستقبل، وأيضاً تصبح القرارات السياسية والاجتماعية أسيرة الدول المقرضة والنافذة والمؤثرة، كما أن وضعاً كهذا لا شك أنه سوف يحجب الرؤية عن وضع الخطط التي يمكن من خلالها الانطلاق إلى الأمام والحد من الاعتماد على الدول الأخرى.
في ظل هذه الظروف سوف تنخفض عملات الكثير من الدول الناشئة مهما حاولت المقاومة، مما يعني زيادة التضخم داخل دولها، وزيادة تكلفة الاستيراد، وأيضاً انخفاض مخزون العملة الصعبة، وزيادة التململ الاجتماعي، وهذا كله لن يساعد متخذ القرار على المضي قدماً فيما خطط له، إن كان قد خطط مسبقاً للوصول إلى غاية معينة يرى فيها نجاحاً لدولته، ورفاهاً لشعبه، والمشكلة أن أصل الدين وفائدته سوف تقتطع جزءاً كبيراً من ميزانية هذه الدول الناشئة، وبهذا يصبح المواطن يصرف جل عمله لصالح دول أخرى، وليس لصالح تنمية بلاده، وهذه مشكلة سوف تدوم، وحلولها تكون أصعب مع مرور الزمن إلى أن تصل إلى مرحلة الله أعلم بالوضع الذي سوف تكون عليه.
والمواطن في دول الغرب المتقدمة لن يكون بمنأى عن الألم، وتحمل الكثير من المتاعب، فبعد أن تضاعفت أسعار الغاز أكثر من اثنتي عشرة مرة في بعض الدول الأوروبية، لابد أن المواطن سيتحمل عبئاً كبيراً، ومن المتوقع أن تصل فاتورة الطاقة أربعين في المائة من دخله وقد يكون البعض عاجزاً عن تحمل هذا العبء مما يضطره إلى الاعتماد على الإعانات الحكومية، التي تجعل المرء يعيش على حد الكفاف، وأذكر أن أستاذة في إحدى الجامعات الأوروبية ذكرت لي أنها عندما كانت طالبة، وارتفعت الطاقة في ذلك الوقت، كانت تستحم في الجامعة حتى تقلل من فاتورة الطاقة، كما أنها عند النوم تلبس ملابسها الصوفية لكي تتجنب تشغيل التدفئة، ومن المؤكد أن هذا الشتاء سيكون شتاءً بارداً على الأوروبيين بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وعدم توفر ما يكفي، وهذا سوف يغير من نمط السلوك الاجتماعي للمجتمع.
لن تكون أزمة التضخم عائقاً أمام تنفيذ خطط الدول المتقدمة، كما لن يكون له تأثير كبير على ميزانيات تلك الدول، ولا على ديونها، وقوة عملتها، لقدرتها على طبع ما تريد من النقد، ورفع الأجور، ومهما ارتفعت أسعار سلعها فإن العالم الناشئ سيكون مضطراً لشراء منتجات تلك الدول، مهما كان سعرها لحاجته إليها وعدم قدرته على الاستغناء عن الكثير منها، ويمكن أن يصدر من السندات ما يشاء، ويتهافت الناس على الشراء لثقة الأسواق فى القدرة على الوفاء، وتمكن العملة من الصمود أمام الرياح، وإمكانية العودة إلى الارتفاع في حالة تعرضها لانخفاض آني، كما هي حال اليورو والجنيه الإسترليني اليوم.
وعموماً فإن العالم يترقب انتهاء الأحداث بين روسيا وأوكرانيا، ليتمكن من معرفة الطريق الذي سوف يسلكه الاقتصاد العالمي في المستقبل.