د. عبدالحق عزوزي
تعتبر القرصنة الإلكترونية واحدة من العمليات الخطيرة والمعقدة التي تضرب لها البلدان ألف حسبان وهي تقوم على استعمال تقنيات متطورة للتسلّل إلى أنظمة الحواسيب بطريقة غير قانونية، والقيام بهجومات عاتية إما لتغيير البيانات أو سرقتها أو إتلافها أو إيقاف تسيير منشآت عمومية أو خاصة، إلى غير ذلك ...
وكثيراً ما تعطي لنا أفلام هوليود صوراً نمطية عن قراصنة الإنترنت، إذ تضعهم في غرف مظلمة يرتدون نوعاً محدداً من السترات وهم يحاولون تنفيذ عملياتهم في جوف الليل ... ومن شأن هاته الهجمات الإلكترونية أن تتعدى حدة الحرب الكلاسيكية ويمكنها أن تسبب في وقوع ضحايا وخسائر جسيمة جسدت في الجزء الرابع من سلسلة أفلام داي هارد Die Hard 4 أو كما عُرف في شمال أمريكا Live free or Die Hard ، حيث نرى الشرطي جون ماكلين (بروس ويليس) في حرب ضروس مع نوع جديد من الهجوم الإلكتروني الذي يبدأ بتعطيل إشارات المرور مما يسبب زحمة خانقة قبل مهاجمة شبكة الأنظمة التي تتحكم في البنى التحتية للولايات المتحدة الأمريكية، ليضع الهجوم البلاد في حالة شلل تام لا يسلم منه أحد.
والهجمات الإلكترونية تدخل في إطار الجيل الخامس من الحروب، وهي حروب هجينة تجمع بين مكونات الحروب التقليدية وغير التقليدية ... فالمحددات الحالية لنوعية الحروب بدأت تتغير جذرياً عما ألفناه وعما نظر له كبار الإستراتيجيين التقليديين أو الكلاسيكيين للحروب كالصيني القديم صن تزو أو الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيت الذي يشبه الحرب بمبارزة على أوسع نطاق ويقارنها بصراع بين اثنين من المتبارزين ليستنتج من خلال ذلك أن «الحرب هو عمل من أعمال العنف تستهدف إكراه الخصم علي فرض إرادة معينة» فالعنف هو الوسيلة، أما الغاية فهي فرض الإرادة على الخصم، بمعنى أن الهدف من أي عمل عسكري هو هزيمة العدو أو نزع سلاحه. لذا نراه يسخر من النظرية القائلة بالحرب دون إهراق الدماء فيقول: «لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء»... أما اليوم فمن شأن الهجمات الإلكترونية أن تتعدى ويلات الحرب الكلاسيكية، وذلك بتغيير المسار السياسي للعديد من الدول الديمقراطية الكبرى عن طريق الاستحواذ على بيانات المرشحين الكبار وفضحهم أمام الملأ؛ وإحداث ضربات موجعة للبنى التحتية في البلدان وإحداث شلل عام فيها وسرقة مكونات العديد من الصناعات العسكرية والإستراتيجية وغير ذلك.
فليس غريباً أن نسمع مثلاً أن الجيش الإسرائيلي يعمل سنوياً لتأهيل مئات الجنود والضباط للعمل في مجال الحرب الإلكترونية في إطار الدوائر الاستخبارية والتنصت أو أن نسمع ونقرأ عن بعض المراسلين والقادة الإسرائيليين أن الحرب الإلكترونية باتت اليوم حربًا تستعد لها تل أبيب جيدًا، خشية أن تدخل في أنظمتها الحساسة فيروسات تشل عملها، خاصة أن أعداءها نجحوا في السيطرة على عدة أنظمة في السنوات الأخيرة، وقفزوا إلى مراتب تقنية ذات صلة بحرب «السايبر»، التي يسميها «حرب الظلال» الجارية بين الجيوش في عمق قلب معلومات العدو، وتشبه الحديث عن «رقعة شطرنج» ضخمة عالمية تتحارب فيها أفضل العقول ...
كما كانت ألمانيا في السنين الأخيرة ولمرات متعددة ضحية قرصنة إلكترونية لم تعهدها أدبيات التجسس في الدول الغربية؛ فبيانات شخصية لمئات المسؤولين السياسيين والشخصيات العامة بينهم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل قد تم نشرها على الإنترنت إثر عملية قرصنة أو تسريب معلومات واسع النطاق ...
فلا جرم إذن أن يصبح أمن الإنترنت من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيش ووزارات الدفاع التي تضع خططاً وإستراتيجيات لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية ومن ثم أمنها الداخلي ... ونتذكر عندما قام القضاء الأمريكي بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي ... والجنود كما جاء في بعض التقارير الإستراتيجية الأمريكية هم أعضاء في وحدة مسماة «بالوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني» ...
هؤلاء الجنود الخمسة اتهموا بأنهم من سنة 2006 إلى سنة 2014 قاموا بسرقة أسرار تجارية لشركات أمريكية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة وغيرها، كما أن الخروج العلني لكبار المسؤولين الأمريكيين وتدخل القضاء الأمريكي دليل على التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديد لم تعهده البشرية من قبل خاصة إذا كانت تشرف عليه أجهزة دولة بعينها ...