أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: صح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله تعالى وجهه عن النار قِبَلَ الجنة، ومثَّل له شجرة ذات ظل؛ فقال: أي رب: قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها.. فقال الله سبحانه وتعالى: هل عسيتَ إنْ فعلتُ أنْ تسألني غيره؟.. فقال: لا وعزتك.. فقدمه إليها، وتمثل له شجرة أخرى ذات ظل وثمرة؛ فيقول: أي رب: قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها، وآكل من ثمرها، وأشرب من مائها.. فيقول: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟.. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيرهما.. فيقدمه الله إليها، فيبرز له باب الجنة؛ فيقول: أي رب: قدمني إلى باب الجنة فأكون تحت لحاف الجنة، فأنظر إلى أهلها.. فيقدمه الله تعالى إليها، فيرى أهل الجنة وما فيها؛ فيقول: أي رب: أدخلني الجنة.. قال: فيدخله الله الجنة؛ فإذا دخل الجنة قال: هذا لي؟!.. فيقول له: تمنَّ.. قال: فيتمنى، ويذكره الله تعالى: سل من كذا، وكذا.. حتى إذا انقطعت الأماني قال: هو لك، وعشرة أمثاله.. قال ثم يدخل بيته؛ فيدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك.. فيقول: ما أُعطي أحد مثل ما أعْطِيتُ.
قال أبو عبدالرحمن: هذا سياق أبي نعيم، وفي النصوص الصحيحة أنَّه يعطى عشرة أمثال الدنيا!!.. أما الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومن أُمرنا بسلوك صراطهم {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (سورة الفاتحة/ 7)؛ فهو بلا ريب أضعاف مضاعفة لا وزن للدنيا فيه مادام هذا ملكَ أدنى أهل الجنة منزلة.. ثم كم في الجنة من عباد الله الصالحين؟!.. لا يحصي ذلك إلا خالقهم المتفضل عليهم.
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ أدنى أهل الجنة لَمَنْ يتمنى على الله؛ فيقال: لك ذلك ومثله معه.. إلا أنَّه يُلقَّن؛ فيقول: كذا، وكذا.. فيقال: لك ذلك ومثله معه.. وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها.. وفي الرواية الأخرى الصحيحة عنه: اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} (سورة الواقعة/ 30).
قال أبو عبدالرحمن: ليس في دنيانا ما يُقطع في مئة عام لا بمشي البشر، ولا بسرعة النفاثة.. ولا ندري مدى سرعة الراكب في الجنة!!.. وهاهنا (وبعد الإيمان العلمي بواقعية الغيوب من أحوال الجنة كما ذكرها الله سبحانه وتعالى) لا بُدَّ من تذكُّر أمور:
أولها: أنَّ المثقفين لم يشكُّوا في دعوى العلم الحديث أنَّ أرضنا هذه جزء من ملايين المقادير لجرم الشمس!.
وثانيها: أنَّ العلمَ الحديث نشر خارطة لنجوم الفضاء والمجرات المعدودة بالبلايين، وبقيت عندهم نقيطات سوداء لم يعقلوا كنهها، ولم يوجد عندهم إلا نظرية (الكون المتمدد).. وهذا حق في ذاته، لأنَّ الله يخلق ما يشاء ويختار، ويزيد في الخلق ما يشاء، وكل شيءٍ عنده بمقدار، ويخلق ما لا نعلم، وقال: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (سورة الذاريات/ 47)، وقال: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (سورة البروج/ 16)، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس/ 82).
وثالثها: أنَّ هذه العظمة من كون الله في مجهر العلم الحديث، وهذه البلايين من الأفلاك التي لا تساوي عندها الأرض شيئاً: إنَّما هي أفلاك مكشوفة، والعلم الحديث مهما عظم لن يتعداها، والمحيط بها سماء دنيا مسقوفة ذات أبواب لا سبيل إلى الوصول إليها ألبتة إلا لمن أذن الله له من ملائكة كرام، وكمعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرفع إدريس وعيسى عليهما السلام، وكرفع أرواح المؤمنين.
ورابعها: (بنص الخبر الشرعي الصحيح): أنَّ هذه الأفلاك الهائلة لا تساوي حبة خردل بالنسبة للسماء الدنيا وما تحيط به بالنسبة للسماء الثانية.. وهكذا وهكذا حتى ننتهي إلى الكرسي المحيط بالسموات والأرض فكلها كخردلة في فلاة بالنسبة له.. ثم بعد ذلك عرش الرحمن أعظم مخلوقات الله وأوسعها.
وخامسها: أنَّ الجنة في أعلى عليين دون العروش؛ فقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنَّه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة.. وهكذا ورد الخبر عن البراء ابن عازب رضي الله عنه.. إذن الدنيا ذرة تائهة في الجنة، وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين